استشارة طبية رقم 74975
زائر
جاءت فكرة هذا الموقع في وقت شعرت فيه كما شعرَ كل يقظٍ في بلادنا بأنه جاء الوقت الذي يلزم فيه تحديد المواقف وأن يحدد كل واحد منا من هو وما يستطيع أن يكونه وما لا يستطيع ! فقد انقسَمَ العالمُ بالفعل إلى موالينَ للغرب دونَ أي قيد أوْ شرط أو معادينَ لهُ وليسَ هناكَ موقفٌ وسَطيٌ كما ترى الإدارة الأمريكية!!
وأنا كطبيب نفسي شعرت بأن عليَّ عبءَ تحديد موقفي في مجال عملي الذي عملت فيه ما يزيد على عشر سنوات خمس منهم بعد الحصول على الدكتوراه! فقدْ أحسَسْتُ أنني لنْ أستطيع الاستمرار مكتَفيا بما تعلمْتُهُ على أنه الطب النفسي العالمي وهو في الحقيقةِ الطب النفسي الغربي!
وأنا أشعر طوال سنين عملي بأن هناك ما يفصل بيني وبين الناس الذين هم مادة عملي فكثيرا ما أشعر أن الكثير مما درسته وأتقنت حفظه غير صالح للتطبيق في مجتمعنا وأن الفجوة كبيرة في الكثير من الأحيان بين ما أحاول إيصاله لمرضاي وبين ما هم مستعدون لتقبله !
ولا يمكنُني أنْ أنسى تعبيرات وجوه بعض مرضايَ وتعبيرات وجوه ذويهم إذ يَنْظُرُ لي بعضُهُم نظْرَةً تنمُ عن الاستغرابِ أو عدم الاستيعابِ لما أقولهُ لهم من نصائحَ يسمونها ذهبيةً في المراجع التي درستُها وينظرُ لي البعضُ منَ المُثَقَّفينَ نوعًا نَظْرَةً تَنُمُّ عن لوعَةٍ فقدْ أدرَكُوا أنني مسكينٌ يحسبُ ما تعَلمَهُ كافيا لمساعَدَة الناس وهو في الحقيقةِ غيرُ ذلك وَبعضهُمْ يقول لي ومالنا نحنُ بذلكَ يا دكتور وبعضهم يقول لي "النبي عربي"!!!
ولم يكن مريحا لي في يوم من الأيام كما هو مريح للكثيرين أن أخلص من هذا الشعور بأن أتهم المجتمع بالجهل والتخلف فأنا أعرف جيدا أوجه القصور في النظرة المادية الخالصة للإنسان والأشياء وأعرف أيضا أن أوجه القصور في العلم الدنيوي الغربي أكبر من أن تسمح لعاقل بأن يُفْتَتن أو أنْ يقنعَ بأن هذا هو كل شيء.
كان عليَّ لذلك أن أفتش في أفكارنا وتراثنا كأمةٍ محاولا الوصول إلى سبب الهوة التي تفصل بين ما تعلمته على أنه العلم العالميُّ الوحيد وبين مجتمعي الذي لا أستطيع مستريحا أن أتهمه بالجهل أو التخلف وبدأت رحلة لا أحتسب منها إلا رضا الله عز وجل ثم شيء من التوفيق بين نظرتين للوجود إحداهما وهي النظرة الغربية بدأت بوضع الإنسان في مركز الكون على أنه السيد الأوحد ثم تحولت تدريجيا إلى جعله جزءًا من الكون غير مستقل عنه بحيث تحكمه نفس القوانين التي تحكم الذرة والجزيء دون أي سمو عنهما! وبين نظرة ثنائية هي نظرة الإسلام ترى الإنسان خليفة للخالق الأعظم استخلفه في الأرض وكرمه عن سائر المخلوقات ووضع فيه عقلا وروحا تسموان به عن سائر الأشياء وتجعلانه كفءً لتحمل الأمانة .
كانت أول صدمة لي حين بدَأتُ رحلتي هي حَجْمُ جهلي العظيم بتراث أمتي وأعني هنا تراثها في الطب النفسي وفي علاج المرض النفسي ومعاملة المريض كأي مريض بأي مرض آخر، ففي عام 93 هجرية الموافق 707 ميلادية أسس الوليد بن عبد الملك أول مستشفى في التاريخ للمرضى العقليين، وكانت تخصص لهم من بيت المال أموال تنفق عليهم للعيش داخل المشفى وخارجه، وفي سنة 151 هجرية- 765 ميلادية، أسس العباسيون في مستشفى بغداد أول قسم للأمراض العقلية داخل مستشفى عام، إذن فقد كان المريض النفسي يُعالج في مستشفى بغداد وفي مستشفى قلاوون بالقاهرة في القرن الرابع عشر الميلادي جنبا إلى جنب مع مريض الجراحة والباطنة والرمد وهذا هو ما احتاج الغرب ستة قرون لكي يصلوا إليه على أنه أحدث الصيحات في علاج المريض النفسي مع غيره من المرضى لما لذلك من أثر جيد في تصحيح المفاهيم التي ترى المرض النفسي مجلبةً للعار وتفصل بين المريض النفسي وبين سواه من المرضى مما يتسبب في إعاقة اجتماعية بعد الشفاء أكثر مما يسببه المرض نفسه! ، كما نبين على مقالات متنوعة في مقال وصمة المرض النفسي : ليست من عندنا!
وجدت أيضا العديد من الرسائل التي تصف الأمراض النفسية وتُحَدِّدُ أعراضها وأسبابها بشكل إنما يبعث على الفخر والكبرياء ولست أدري من المسئول عن حجب كل هذا التراث المشرف عن الدارسين في بلادنا ولا أدري من الذي قرر أن أقرأ فقط وصفات الغربيين وأفكارهم ولا أقرأ مثلا ما يقوله الشيخ أبو حامد الغزالي رحمه الله في المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي العزة والجلال وهو يصف نوبة اكتئاب حادة أصابته: "فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا، ودواعي الآخرة، قريباً من ستة أشهر أولها رجب سنة ثمان وثمانين وأربع مائة. وفي هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار، إذ أقفل الله على لساني حتى اعتقل عن التدريس، فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يوماً واحداً تطييباً لقلوب المختلفة إلي، فكان لا ينطق لساني بكلمة واحدة ولا أستطيعها البتة، حتى أورثت هذه العقلة في اللسان حزناً في القلب، بطلت معه قوة الهضم ومراءة الطعام والشراب: فكان لا ينساغ لي ثريد، ولا تنهضم لي لقمة؛ وتعدى إلى ضعف القوى، حتى قطع الأطباء طمعهم من العلاج وقالوا: ((هذا أمر نـزل بالقلب، ومنه سرى إلى المزاج، فلا سبيل إليه بالعلاج، إلا بأن يتروح السر عن الهم الملم)).ثم لما أحسست بعجزي، وسقط بالكلية اختياري، التجأت إلى الله تعالى التجاء المضطر الذي لا حيلة له، فأجابني الذي (( يجيب المضطر إذا دعاه))"اهـ
أو ما يقوله ابنُ سينا مثلا في تحليله للسلوك "إذا كان تناول الطعام مقترنا باللذة، والضربُ بالعصا مقترنا بالألمِ فإن الحيوانَ والإنسانَ يحتفظانِ في ذاكرتهما بصورة الطعام مقترنة باللذة ، وبصورة العصا مقترنا بالألم فتصبح رؤيةُ الطعام فيما بعد مثيرةً للشعور باللذة ورؤية العصا مثيرةً للشعور بالألم" وَهذه هي الاستجابةُ الشرطيةُ التي قال بها الروسي إيفان بافلوف بعد عشرة قرون والتي تعلمتها أنا عن بافلوف منذ أولى سنين دراستي للطب على أنه مبدعها الأول وهي أيضا حجر أساس علم النفس السلوكي وعلاجهِ كله.
وكذلك وجدت مقالة لإسحاق بن عُمران عن المالنكوليا أو الاكتئاب حيث يصف ابن عمران بعض العوارض المرضية التي تميز هذه الحالات فهناك المريض الذي تمر به أفكار رهيبة خيالية فيشعر بأحاسيس خاطئة، كالذي رأى جماعة من السود يريدون قتله، وهناك الذي يتوهم أن لا رأس له أو يسمع مثل خرير المياه وقرع الرياح وعصفها وأصوات مهولة في أذنه، كما أن المريض يفقد المحاكمة والتمييز كالذي يخشى من سقوط السماء على رأسه فيجتنب المشي تحتها والأمثلة عديدة في هذا الصدد غير أن هؤلاء المرضى يشعرون بضرورة اللجوء إلى الطبيب بمزيد من التعطش والإلحاح لشدة يأسهم وكثرة آلامهم، أما من الناحية الجسمية فكلهم يشتكون من الهزال والأرق ثم يتعرض ابن عمران إلى الأعراض السريرية للأصناف المرضية المختلفة من المالينكوليا :
1) فيلاحظ في الشكل الذي يمس الدماغ الأرق ووجع الرأس وكثرة لمع العينين ونهم من يقل تقوته من الطعام والشراب وهى أخطر الأحداث ويتصف هذا الصنف بالهياج وحتى بالوثب الذي يذكر بالسباع وسماه ابن عمران الصنف السبعي وهو يؤدى إلى الشرسام .
2) أما في الصنف الشراسفي فان الأعراض تعم المرضى، وتزيد فيهم حسب قوله ما يجدون لمن التـزقق في بطونهم من الرياح السوداوية. فهذا الصنف يتصف بشدة الكآبة وحب العزلة والاستراحة في الأماكن القاسية.
3) وهناك أصناف أخرى تسبق أو تتبع ما يسميه ابن عمران بالمرض العظيم.
وأصبح واضحاً بالنسبةِ لي أن الفخ الذي وقع فيه السواد الأعظم من علمائنا ومفكرينا ومثقفينا هو اعتقادهم بأنَّ الهوة التي يجدونها بين علومهم وثقافتهم وما يعيشه الناس في بلادنا إنما ترجع إلى تخلفنا وقد أصبحت على قناعة بأن ذلك غير صحيح بالمرة! فمجتمعنا ليس متخلفا ولا جاهلا إلا حين ننطلق من مرجعية أنَّ النموذج الغربي المادي هو النموذج الوحيد الصحيح وهذه مرجعية أبعد ما تكون عن الصواب.
وأنا أدعوك عزيزي المتصفح أن تنتبه لما يحتويه الموقع من نفحاتٍ من تراثنا العربي الذي لا نعرف عنه إلا القليل ! فلم يكن علم النفس يوماً ولا كان الطب النفسي وليد النهضة الأوربية كما يقال، ولم يكن على الإطلاق أحد إفرازات الحضارة الغربية، ولكن شاء الكثير من الباحثين في علم النفس أن يتركوا أو يتناسوا التاريخ والغور في معالم النفس البشرية ولربما مالوا كل الميل ولا نقول بانحيازهم كل الانحياز إلى ما كتب حديثاً وسهلت طباعته وتيسر نشره، ولم تكن تهمهم تلك الجذور النفسية الموجودة في خضم الفكر القرآني والحضارة الإسلامية.
وأنا كطبيب نفسي شعرت بأن عليَّ عبءَ تحديد موقفي في مجال عملي الذي عملت فيه ما يزيد على عشر سنوات خمس منهم بعد الحصول على الدكتوراه! فقدْ أحسَسْتُ أنني لنْ أستطيع الاستمرار مكتَفيا بما تعلمْتُهُ على أنه الطب النفسي العالمي وهو في الحقيقةِ الطب النفسي الغربي!
وأنا أشعر طوال سنين عملي بأن هناك ما يفصل بيني وبين الناس الذين هم مادة عملي فكثيرا ما أشعر أن الكثير مما درسته وأتقنت حفظه غير صالح للتطبيق في مجتمعنا وأن الفجوة كبيرة في الكثير من الأحيان بين ما أحاول إيصاله لمرضاي وبين ما هم مستعدون لتقبله !
ولا يمكنُني أنْ أنسى تعبيرات وجوه بعض مرضايَ وتعبيرات وجوه ذويهم إذ يَنْظُرُ لي بعضُهُم نظْرَةً تنمُ عن الاستغرابِ أو عدم الاستيعابِ لما أقولهُ لهم من نصائحَ يسمونها ذهبيةً في المراجع التي درستُها وينظرُ لي البعضُ منَ المُثَقَّفينَ نوعًا نَظْرَةً تَنُمُّ عن لوعَةٍ فقدْ أدرَكُوا أنني مسكينٌ يحسبُ ما تعَلمَهُ كافيا لمساعَدَة الناس وهو في الحقيقةِ غيرُ ذلك وَبعضهُمْ يقول لي ومالنا نحنُ بذلكَ يا دكتور وبعضهم يقول لي "النبي عربي"!!!
ولم يكن مريحا لي في يوم من الأيام كما هو مريح للكثيرين أن أخلص من هذا الشعور بأن أتهم المجتمع بالجهل والتخلف فأنا أعرف جيدا أوجه القصور في النظرة المادية الخالصة للإنسان والأشياء وأعرف أيضا أن أوجه القصور في العلم الدنيوي الغربي أكبر من أن تسمح لعاقل بأن يُفْتَتن أو أنْ يقنعَ بأن هذا هو كل شيء.
كان عليَّ لذلك أن أفتش في أفكارنا وتراثنا كأمةٍ محاولا الوصول إلى سبب الهوة التي تفصل بين ما تعلمته على أنه العلم العالميُّ الوحيد وبين مجتمعي الذي لا أستطيع مستريحا أن أتهمه بالجهل أو التخلف وبدأت رحلة لا أحتسب منها إلا رضا الله عز وجل ثم شيء من التوفيق بين نظرتين للوجود إحداهما وهي النظرة الغربية بدأت بوضع الإنسان في مركز الكون على أنه السيد الأوحد ثم تحولت تدريجيا إلى جعله جزءًا من الكون غير مستقل عنه بحيث تحكمه نفس القوانين التي تحكم الذرة والجزيء دون أي سمو عنهما! وبين نظرة ثنائية هي نظرة الإسلام ترى الإنسان خليفة للخالق الأعظم استخلفه في الأرض وكرمه عن سائر المخلوقات ووضع فيه عقلا وروحا تسموان به عن سائر الأشياء وتجعلانه كفءً لتحمل الأمانة .
كانت أول صدمة لي حين بدَأتُ رحلتي هي حَجْمُ جهلي العظيم بتراث أمتي وأعني هنا تراثها في الطب النفسي وفي علاج المرض النفسي ومعاملة المريض كأي مريض بأي مرض آخر، ففي عام 93 هجرية الموافق 707 ميلادية أسس الوليد بن عبد الملك أول مستشفى في التاريخ للمرضى العقليين، وكانت تخصص لهم من بيت المال أموال تنفق عليهم للعيش داخل المشفى وخارجه، وفي سنة 151 هجرية- 765 ميلادية، أسس العباسيون في مستشفى بغداد أول قسم للأمراض العقلية داخل مستشفى عام، إذن فقد كان المريض النفسي يُعالج في مستشفى بغداد وفي مستشفى قلاوون بالقاهرة في القرن الرابع عشر الميلادي جنبا إلى جنب مع مريض الجراحة والباطنة والرمد وهذا هو ما احتاج الغرب ستة قرون لكي يصلوا إليه على أنه أحدث الصيحات في علاج المريض النفسي مع غيره من المرضى لما لذلك من أثر جيد في تصحيح المفاهيم التي ترى المرض النفسي مجلبةً للعار وتفصل بين المريض النفسي وبين سواه من المرضى مما يتسبب في إعاقة اجتماعية بعد الشفاء أكثر مما يسببه المرض نفسه! ، كما نبين على مقالات متنوعة في مقال وصمة المرض النفسي : ليست من عندنا!
وجدت أيضا العديد من الرسائل التي تصف الأمراض النفسية وتُحَدِّدُ أعراضها وأسبابها بشكل إنما يبعث على الفخر والكبرياء ولست أدري من المسئول عن حجب كل هذا التراث المشرف عن الدارسين في بلادنا ولا أدري من الذي قرر أن أقرأ فقط وصفات الغربيين وأفكارهم ولا أقرأ مثلا ما يقوله الشيخ أبو حامد الغزالي رحمه الله في المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي العزة والجلال وهو يصف نوبة اكتئاب حادة أصابته: "فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا، ودواعي الآخرة، قريباً من ستة أشهر أولها رجب سنة ثمان وثمانين وأربع مائة. وفي هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار، إذ أقفل الله على لساني حتى اعتقل عن التدريس، فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يوماً واحداً تطييباً لقلوب المختلفة إلي، فكان لا ينطق لساني بكلمة واحدة ولا أستطيعها البتة، حتى أورثت هذه العقلة في اللسان حزناً في القلب، بطلت معه قوة الهضم ومراءة الطعام والشراب: فكان لا ينساغ لي ثريد، ولا تنهضم لي لقمة؛ وتعدى إلى ضعف القوى، حتى قطع الأطباء طمعهم من العلاج وقالوا: ((هذا أمر نـزل بالقلب، ومنه سرى إلى المزاج، فلا سبيل إليه بالعلاج، إلا بأن يتروح السر عن الهم الملم)).ثم لما أحسست بعجزي، وسقط بالكلية اختياري، التجأت إلى الله تعالى التجاء المضطر الذي لا حيلة له، فأجابني الذي (( يجيب المضطر إذا دعاه))"اهـ
أو ما يقوله ابنُ سينا مثلا في تحليله للسلوك "إذا كان تناول الطعام مقترنا باللذة، والضربُ بالعصا مقترنا بالألمِ فإن الحيوانَ والإنسانَ يحتفظانِ في ذاكرتهما بصورة الطعام مقترنة باللذة ، وبصورة العصا مقترنا بالألم فتصبح رؤيةُ الطعام فيما بعد مثيرةً للشعور باللذة ورؤية العصا مثيرةً للشعور بالألم" وَهذه هي الاستجابةُ الشرطيةُ التي قال بها الروسي إيفان بافلوف بعد عشرة قرون والتي تعلمتها أنا عن بافلوف منذ أولى سنين دراستي للطب على أنه مبدعها الأول وهي أيضا حجر أساس علم النفس السلوكي وعلاجهِ كله.
وكذلك وجدت مقالة لإسحاق بن عُمران عن المالنكوليا أو الاكتئاب حيث يصف ابن عمران بعض العوارض المرضية التي تميز هذه الحالات فهناك المريض الذي تمر به أفكار رهيبة خيالية فيشعر بأحاسيس خاطئة، كالذي رأى جماعة من السود يريدون قتله، وهناك الذي يتوهم أن لا رأس له أو يسمع مثل خرير المياه وقرع الرياح وعصفها وأصوات مهولة في أذنه، كما أن المريض يفقد المحاكمة والتمييز كالذي يخشى من سقوط السماء على رأسه فيجتنب المشي تحتها والأمثلة عديدة في هذا الصدد غير أن هؤلاء المرضى يشعرون بضرورة اللجوء إلى الطبيب بمزيد من التعطش والإلحاح لشدة يأسهم وكثرة آلامهم، أما من الناحية الجسمية فكلهم يشتكون من الهزال والأرق ثم يتعرض ابن عمران إلى الأعراض السريرية للأصناف المرضية المختلفة من المالينكوليا :
1) فيلاحظ في الشكل الذي يمس الدماغ الأرق ووجع الرأس وكثرة لمع العينين ونهم من يقل تقوته من الطعام والشراب وهى أخطر الأحداث ويتصف هذا الصنف بالهياج وحتى بالوثب الذي يذكر بالسباع وسماه ابن عمران الصنف السبعي وهو يؤدى إلى الشرسام .
2) أما في الصنف الشراسفي فان الأعراض تعم المرضى، وتزيد فيهم حسب قوله ما يجدون لمن التـزقق في بطونهم من الرياح السوداوية. فهذا الصنف يتصف بشدة الكآبة وحب العزلة والاستراحة في الأماكن القاسية.
3) وهناك أصناف أخرى تسبق أو تتبع ما يسميه ابن عمران بالمرض العظيم.
وأصبح واضحاً بالنسبةِ لي أن الفخ الذي وقع فيه السواد الأعظم من علمائنا ومفكرينا ومثقفينا هو اعتقادهم بأنَّ الهوة التي يجدونها بين علومهم وثقافتهم وما يعيشه الناس في بلادنا إنما ترجع إلى تخلفنا وقد أصبحت على قناعة بأن ذلك غير صحيح بالمرة! فمجتمعنا ليس متخلفا ولا جاهلا إلا حين ننطلق من مرجعية أنَّ النموذج الغربي المادي هو النموذج الوحيد الصحيح وهذه مرجعية أبعد ما تكون عن الصواب.
وأنا أدعوك عزيزي المتصفح أن تنتبه لما يحتويه الموقع من نفحاتٍ من تراثنا العربي الذي لا نعرف عنه إلا القليل ! فلم يكن علم النفس يوماً ولا كان الطب النفسي وليد النهضة الأوربية كما يقال، ولم يكن على الإطلاق أحد إفرازات الحضارة الغربية، ولكن شاء الكثير من الباحثين في علم النفس أن يتركوا أو يتناسوا التاريخ والغور في معالم النفس البشرية ولربما مالوا كل الميل ولا نقول بانحيازهم كل الانحياز إلى ما كتب حديثاً وسهلت طباعته وتيسر نشره، ولم تكن تهمهم تلك الجذور النفسية الموجودة في خضم الفكر القرآني والحضارة الإسلامية.
بيانات الاستشارة