التصنيفات
التوحد

التوحد Autism

الآن صار لدينا أمل ولكن لا يزال بداخلنا شعور بالخوف، فلم تكن التوعية بالتوحد أعظم يوما مما هي عليه الآن. فنحن الآن ندرك أن التوحد يحدث نتيجة تطور المخ بشكل غير طبيعي وليس بسبب وجود خلل في أسلوب التربية، ونعرف أيضا أن توافر برنامج للتعليم الخاص المكثف في وقت مبكر يمكن أن يساعد الطفل المصاب بالتوحد كيف يتعلم أن يفكر ويتواصل مع الآخرين بشكل أكثر مرونة. ومع ازدياد توافر برامج العلاج الجيدة أصبح بإمكان الأخصائيين تشخيص الحالات في أعمار أقل مما يزيد بشدة من فرص التحسن.

ولكن على الجانب الآخر يبدو أن عدد الأطفال المصابين بالتوحد يزداد، وأقول «يبدو» لأننا لسنا متأكدين إلى أي قدر ترجع هذه الزيادة في عدد الحالات إلى ارتفاع نسبة الوعي بالتوحد وإلى أي مدى يمكن أن نعزو تلك الزيادة إلى الارتفاع الحقيقي في حالات التوحد. ثمة نظرية شهيرة تقول إن التوحد يحدث نتيجة التحصينات التي يتناولها الطفل، ولكن ذلك الاحتمال بعيد للغاية. ولكن هناك الكثير من الأسباب المحتملة لهذا المرض لم تتعرض كلها للبحث الشامل. وفي حين يزداد عدد الأطفال المستفيدين من التعليم المبكر والمكثف لايزال هناك الكثير من الآباء يأملون في الحصول على علاج فوري للمرض من خلال طرق العلاج السحرية، وعندما يكتشف هؤلاء الآباء أن آمالهم لم تكن في محلها، وهو ما يحدث دائما في الغالب، يمكن أن يصابوا بالإحباط الشديد. فعندما نتوقع من الطفل المصاب بالتوحد أن يتقدم بشكل ملحوظ فنحن نفكر بشكل واقعي، وربما أيضا يتمكن هذا الطفل من الاعتماد على نفسه وقد يصبح متميزا في مشواره العملي، ولكن على الجانب الآخر من المحتمل أن يظل هذا الطفل يواجه بعض التحديات من نوع خاص طوال حياته.

لقد زاد علمنا عن التوحد كثيرا عما سبق ولكن لايزال أمامنا الكثير لنتعلمه. وسوف نعرض مقدمة مختصرة عن المرض فيما يلي، ولكن إذا كان طفلك أو أي طفل تحبه مصابا بالتوحد فقد ترغب في معرفة المزيد.

ماذا يعني التوحد؟

يتطور الأطفال المصابون بالتوحد بشكل غير طبيعي في ثلاثة مناح: التواصل، والعلاقات، والاهتمامات والسلوكيات. ومع أن الأطفال الذين ينمون بشكل طبيعي يواجهون أحيانا صعوبات في إحدى هذه النقاط، يعد النمط الإجمالي الذي تسير وفقا له المشكلات في تلك المناحي هو الذي يشكل التوحد، وسوف نستعرض فيما يلي بعض الأمثلة:

التواصل

قد لا يبدأ الأطفال المصابون بالتوحد في مناغاة الآخرين في الوقت الطبيعي (عند الشهر السادس وحتى الشهر الثاني عشر) وغالبا ما يتأخرون في نطق الكلمات. وإذا تحدثوا فغالبا ما يكررون الكلمات من دون وجود معنى لهذا التكرار ولا يمكنهم إقامة محادثات. ويواجه الأطفال المصابون بالتوحد أيضا مشكلات في التواصل غير اللفظي فهم لا ينظرون في أعين من يحدثهم ليخبروه بأنهم يستمعون إليه أو يشيرون إلى الأشياء التي تحوز اهتمامهم ليخبروا الآخرين بذلك.

العلاقات

قد لا يميل الأطفال الصغار المصابون بالتوحد مثلما هو طبيعي لأن يحتضنهم الآخرون أو قد لا يرفعون أيديهم ليحملهم الأبوان وقد ينزعج بعضهم من لعبة الدغدغة أو الألعاب الأخرى التي تتضمن التقبيل والعناق والتي يستمتع بها معظم الأطفال الرضع. وغالبا ما يتجاهل الأطفال المصابون بالتوحد أقرانهم أو يتفاعلون معهم بشكل غير مرغوب لأنهم لا يستطيعون فهم تلك التلميحات التي يعبر بها الأطفال الآخرون إما عن استعدادهم للعب مع الآخرين أو عن رغبتهم في ألا يشاركهم أحد.

وربما يعبر هؤلاء الأطفال عن مشاعرهم الدافئة مع آبائهم وأمهاتهم ولكن بطرق غريبة مثل أن يمشي أحدهم إلى الخلف باتجاه أحد أبويه كتعبير عن رغبته في أن يحضنه.

الاهتمامات والسلوكيات

غالبا ما يهتم الأطفال المصابون بالتوحد بشدة بعدد قليل من السلوكيات ويكررونها مرارا وتكرارا، فقد يصف طفلا عرباته الصغيرة بنفس الترتيب أو يظل ينير الأضواء ثم يطفئها. وقد يستمر طفل آخر لساعات في وضع شريط لاصق فوق جهاز الفيديو ثم إزالته ثم وضعه من جديد. وأي محاولة لتغيير الروتين الذي يقوم به الطفل قد يؤدي به إلى الدخول في نوبة غضب. ويستمتع هؤلاء الأطفال بشكل خاص بجعل الأشياء تدور، فهم غالبا ما يدورون بأجسامهم أو ربما يلوحون بأيديهم أو يلفونها أو يتأرجحون إلى الأمام والخلف بشكل متكرر. وربما يكون رد فعلهم غريبا تجاه الأصوات أو الروائح أو الملمس، فعلى سبيل المثال ربما يحبون الشعور بأن أحدا يمسك بهم بقوة، ولكن يكرهون أن يلمسهم شخص ما برفق أو حنو.

نطاق مشكلات مرض التوحد

ثمة نطاق يحدده الأطباء للاضطرابات التي يسببها التوحد والتي تتراوح من كونها بسيطة وحتى كونها حادة للغاية. ولكن قد تكون المصطلحات المستخدمة في هذا المجال مربكة، فمصطلح «اضطرابات النمو الشامل» يستخدم أحيانا في وصف كل مجموعة الاضطرابات المرتبطة بالتوحد، وفي نفس الوقت «اضطراب النمو الشامل» هو نوع من اضطرابات التوحد لا يظهر من خلاله كل الأعراض التي تظهر لدى حالات النمو المتقدم، وفي بعض الأحيان يعرف هذا الاضطراب بالتوحد ذي الأداء الوظيفي المرتفع.

يعد اضطراب أسبرجر أحد أنواع التوحد الذي يتمكن الأطفال المصابون به من التحدث بشكل صحيح، ولكن يجدون صعوبات بالغة في النقاط الأكثر دقة الخاصة بالاستخدام الاجتماعي للغة. فقد يتكلمون مثلا بنغمة صوت ثابتة أو رتيبة أو ربما يتحدثون بشكل جدي للغاية وكأنهم علماء صغار، ولكن يستحيل عليهم أن يكونوا أطرافا في حوار عفوي بسيط.

وتتزايد أعداد الأطفال الذين يشخص الأطباء حالتهم على أنهم يعانون من اضطراب أسبرجر لمجرد أن علاقاتهم الاجتماعية تنحرف قليلا عن المعتاد أو أنهم يظهرون بعض السلوكيات الغريبة. ففي بداية نطاق مشكلات التوحد يكون الفارق بين الاضطراب والاختلاف غير واضح.

سنجد في نهاية هذا النطاق عندما تصبح تلك المشكلات أكثر حدة أن التوحد غالبا ما يرافق الإعاقة الذهنية الحادة أو مشكلات السمع أو نوبات الصرع المتكررة. وعلى الرغم من أن الأطفال المصابين بمثل هذه المشكلات ربما لا يتمكنون أبدا من التواصل اللفظي فإن المدرسين والمعالجين المهتمين بتلك الحالات بإمكانهم أن يعلموهم طرقا أخرى للاتصال والتواصل.

وبالإضافة إلى مشكلات التوحد الرئيسية التي تتضمن التواصل والعلاقات والاهتمامات غالبا ما يواجه الأطفال المصابون بالتوحد أعراضا للاكتئاب أو القلق أو الغضب أو قلة التركيز. وتستهدف طرق العلاج الفعالة المشكلات الأساسية بالإضافة إلى المشكلات المصاحبة لها.

هل هناك مشكلة أساسية تتعلق بالتوحد؟

هناك العديد من النظريات في هذا الموضوع، وإحدى تلك النظريات التي أجدها منطقية هي أن التوحد يؤثر على الطريقة التي يعالج بها المخ المعلومات التي تنتقل إليه عبر الحواس، ربما مثل جهاز تليفزيون به خلل في استقبال الإشارات. يصل بعض هذه الإشارات إليه جيدا وبعضها يكون مشوشا والبعض الآخر لا يصل بالمرة. ومن المحتمل أن تكون الصعوبات الأساسية التي يواجهها المصابون بالتوحد، التي تتضمن التواصل والعلاقات والسلوكيات، هي عبارة عن ردود أفعال لتلك الإشارات المشوشة، فهي محاولة من الطفل لكي يتكيف مع هذا العالم المربك والمخيف.

وبعض الأعراض الأكثر حدة، مثل نوبات الغضب العنيفة، ربما تكون تعبيرا عن الإحباط والحزن اللذين يصيبان الطفل نتيجة انعزاله عن الأشخاص. وولع الأطفال المصابين بالتوحد بلف الأشياء بشكل دائري، وهو عرض آخر من أعراض المرض، ربما يعكس وجود اضطرابات في حاسة الطفل الدهليزية وهي الحاسة التي تتحكم بشكل طبيعي في التوازن. ربما يتجنب الطفل أن ينظر في عيني محدثه ويفضل بدلا من ذلك النظر إلى أشياء صغيرة مألوفة بشدة لديه لأن الوجه البشري يزوده بكثير من المعلومات في لحظة واحدة، وهو شيء يجده الطفل المصاب بالتوحد مربكا ومزعجا، أو ربما يفتقر الأطفال المصابون بالتوحد للقدرة على فهم المعلومات التي تنقلها لهم تعبيرات الوجه، ويكتسب الأطفال الطبيعيون هذه المقدرة في عمر مبكر للغاية (أو ربما يولدون بها). وفي هذه الحالة يتجنب الأطفال المصابون بالتوحد النظر إلى أعين الأشخاص ليس لأن ذلك أمر مزعج بالنسبة لهم، وهو أمر ممل للغاية لأنهم لا يفهمون منه شيئا، وتشير الأبحاث الجديدة إلى أن ذلك قد يكون سبب تجنب هؤلاء الأطفال النظر إلى الوجوه والأعين.

إذا كان التوحد يشوه الطريقة التي يرى من خلالها الطفل ويسمع ويشعر ويتذوق، فمن المنطقي أن تتحول كل الأحاسيس اليومية التي تزيد بطبيعتها من ارتباط الأطفال بآبائهم مثل تبادل النظرات والعناق والغناء للطفل إضافة إلى أشياء تزيد من عزلة الطفل المصاب بالتوحد. والتحدي الذي يواجه الآباء في علاج التوحد هو عدم الالتفات إلى تشوه الإشارات الحسية التي تصل إلى الطفل والتغلب على سلوكيات الطفل الدفاعية وتعليمه المهارات التي يحتاجها لكي يوصل إلى الآخرين أفكاره ومشاعره.

العلامات المبكرة للتوحد

يزيد الاكتشاف المبكر للتوحد من فرص التحسن. ففي وقت مبكر للغاية من عمر الرضيع ربما ينتاب الأبوين إحساس غامض بأن شيئا ما ليس على ما يرام، وعندما يعودان بذاكرتهما إلى الوراء سيكتشفان أن طفلهما الرضيع لم يحدق في أعينهم مثل بقية الأطفال أو لم يكن فعلا يحب الدغدغة. وهناك علامات مبكرة أخرى تتضمن عدم إشارة الطفل عند الشهر الحادي عشر إلى الأشياء المختلفة للفت انتباه أبويه إليها، أو عدم استخدام الطفل للكلمات عند الشهر الخامس عشر من أجل التعبير عن رغباته أو أفكاره البسيطة للآخرين، أو عدم استخدام كلمتين معا لتكوين الجمل البسيطة عند بلوغ الطفل العامين. ولكن لا يمكننا أن نأخذ أيا من هذه العلامات التحذيرية على أنها دليل قاطع على إصابة الطفل بالتوحد (فأحيانا ما تكون هذه العلامات هي دلائل على فقدان السمع أو على مشكلات أخرى تتعلق بالنمو أو ربما يكون مجرد تشابه بين الأشكال المختلفة للنمو الطبيعي وبعض هذه العلامات). ولكن إذا لاحظت أيا منها يجب أن تجري اختبارا لتقييم مستوى نمو الطفل ولا تقنع فقط بإحساسك الداخلي بأنه «سيتغلب عليها مع مرور الوقت».

الطرق العلاجية

الركيزة الأساسية في علاج التوحد تتمثل في تلقي الطفل تعليما مبكرا ومكثفا يركز على التواصل. وغالبا ما تتضمن البرامج التي وجد أنها تحسن مهارات اللغة ومهارات إقامة العلاقات لدى الأطفال بذل مجهود معهم لعدة ساعات كل يوم طوال الأسبوع. ومن أفضل الأساليب العلاجية التي خضعت للبحث أسلوب يعرف بتحليل السلوك التطبيقي، وقد يعرف الأخصائيون المدربون على تقديم هذا النوع المتخصص من العلاج أنفسهم على أنهم محللون معتمدون للسلوك BCBAs. قد يلتحق الطفل بأكثر من برنامج واحد ويكون لديه أيضا مدرسون خصوصيون أو مساعدون حاصلون على مستويات مختلفة من التدريب. وتتضمن الخطة العلاجية الشاملة عددا من الاتجاهات تتمثل في علاج اضطرابات اللغة والكلام والعلاج الطبيعي والعلاج الوظيفي.

ويتطلب هذا المجهود المكثف من الأبوين أن يكرس أحدهما كل وقته للاهتمام بالطفل المصاب بالتوحد ورعاية برنامجه التعليمي. ومن التحديات الخطيرة التي تواجه الأبوين أيضا التوصل إلى طريقة تحقق التوازن حتى يظل أفراد الأسرة الآخرون متواجدين في حياته وتظل علاقاته بهم جميعا تحظى بالاهتمام.

لم يكتشف بعد دواء بإمكانه أن يعالج الأسباب التي تقف وراء التوحد، ولكن هناك أدوية مختلفة تقلل من بعض الأعراض التي تجعل حياة الأسرة غير محتملة وتؤثر على البرنامج التعليمي للطفل مثل الغضب والقلق والهوس. يلجأ العديد من الآباء إلى الطب البديل والطب التكميلي بحثا عن علاج لأطفالهم، وهناك يجدون أنفسهم في مواجهة عدد ضخم من النظريات والعلاجات، الأمر الذي غالبا ما يكون مربكا ومحيرا، وبعض هذه النظريات يكون منطقيا أكثر من غيره، ولكن لم يثبت الفحص العلمي الدقيق فاعلية أي منها حتى الآن. تتضمن بعض هذه النظريات وضع نظام غذائي للطفل يخلو من الجلوتين ومنتجات الألبان ويحتوي على جرعات كبيرة من فيتامين ب، ويعد الحفاظ على مثل هذه الأنظمة الغذائية أمرا صعبا ولكنها ليست خطيرة.

وتتضمن الطرق العلاجية الأخرى التي أثارت قدرا أكبر من الجدل إعطاء الأطفال أدوية من أجل إزالة المعادن الثقيلة مثل الزئبق من الجسم. وتكلفة هذا النوع من العلاج الذي يعرف بالعلاج الاستخلابي تكون عالية وغالبا ما يكون مؤلما كما أن له مخاطر محتملة، بالإضافة إلى أن فعاليته لم تثبت علميا بالمرة. إن الآباء الذين يرغبون في فعل كل ما في وسعهم لأطفالهم المصابين بالتوحد ليسوا مخطئين، ولكنهم يجب أن يتقيدوا بالحكمة الطبية الشهيرة التي تقول: “علينا أولا أن نتجنب الضرر”.

اسأل طبيب مجاناً