التصنيفات
الغذاء والتغذية

هل الدهون التي نأكلها مفيدة أم ضارة؟

هل عليّ حقًا أن آكل دهناً أقل؟ يحلو لنا أن نعتقد أن كل الخيارات المهمة إما بيضاء أو سوداء؛ أن بعض الأشياء تبدو لنا جيدة بجلاء وبعضها مكروه أو ضار بوضوح. كثير من الأمور تقع في المنطقة الرمادية، لذا نستطيع إهمالها أو عملها بلا تفكير زائد فيها، بأمان. لكننا نحب فصل الصواب عن الخطأ. ما نظنه خيرًا لصحتنا يجب أن نفعله. وما نظنه ضارًا بها، نجعله خارجًا عن القانون أو مجرمًا؛ نقاطعه بلا ندم ونتركه خلفنا على الطبق أو في السوق.

للدهن في طعامنا اسم سيئ. وهذا لسبب منطقي. تعد الدهون -أكثر من أي عنصر آخر في طعامنا- عدو محيط الخصر، وعدو صحتنا بالتبعية. إلى درجة أن استبعاد الدهون من الطعام وعلامات “قليل الدهون” كانت، حتى وقت حديث نسبيًا، مرادفات للبديل الصحي (الجيد).

للدهن عدة خصائص تجعله يبدو شريرًا. عند مقارنته، رطلًا برطل، تعطي الدهون في وجبة ضعف السعرات الحرارية التي يعطيها السكر أو البروتين؛ مما يترك فائضًا كثيرًا ليستقر في أردافنا. وعليه، كثير من الأنظمة الغذائية قليلة الدهون قليلة السعرات كذلك، مما يساعدنا على فقدان الوزن، أو عدم اكتسابه مجددًا بنفس السهولة على الأقل.

لكننا لسنا ما نأكل ببساطة. تناولنا طعامًا دسمًا بالدهون لا يعني أننا بدناء أو أننا سنغدو كذلك. وكذلك، أكل طعام قليل الدهون لا يعني أننا سنفقد وزنًا دائمًا. أي سعرات حرارية إضافية من أي مصدر تؤدي في النهاية إلى المزيد من الدهون في أجسامنا، بغض النظر إن كانت في الأصل دهنًا، أم سكرًا، أم بروتينًا. الإفراط في أكل أي شيء وكل شيء فيه سعرات حرارية سيجعلنا بدناء في النهاية، حتى وإن كانت عليه علامة خيار صحي قليل الدهون. الأمر أننا نحتاج إلى أن نأكل من الطعام قليل الدهون أكثر من حاجتنا العادية لإضافة نفس عدد الأرطال.

بعيدًا عما نأكل، إذا أكلنا أكثر من حاجتنا، يصنع جسمنا دهنه الخاص لتخزين الطاقة. هذا نافع، فهو أشبه بخزانة الطعام أو الثلاجة لتخزين الطعام في بيتنا. ما لا نحتاج إلى استعماله في زماننا هذا، نخزنه حتى إذا عدنا إلى البيت جياعًا في يوم آخر، نستطيع أن نفتح باب الخزانة ونأخذ منها شيئًا. المشكلة أننا إذا وجدنا مكانًا آخر نأكل فيه -مثل الخروج للعشاء أو التوقف لوجبة سريعة نأخذها معنا- فلا تظهر حاجة إلى فتح مخازننا في البيت وستبقى كما هي.

بنفس الطريقة، عندما نأكل خارج البيت شيئًا يحتوي على سعرات، سواء كان دسمًا، أم كثير الدهون، أم حلوًا، نترك ما خزناه سابقًا من دهون في مكانه حول خصرنا دون توزيع واسع النطاق. عادة، نأكل أكثر مما نحتاج، لذا نضيف أي فضل طعام إلى مخزننا، مُراكمين دهنًا أكثر مما يبدو أننا قد نستهلكه أبدًا.

خلاف الثلاجة أو خزانة الطعام، نحن لا نرمي ببساطة أي شيء لم نعد نحتاج إليه. لن يذهب. علينا أن نتخلص منه أكلًا.

لحسن الحظ، أيض الإنسان يعني أننا دائمًا نحرق دهنًا. لذا، فالتخلص من الدهون الزائدة يعني استعمال الدهون التي في خزانتنا لتغذية أيضنا، بدلًا من الخروج لتناول وجبة أخرى. لهذا فتقليل الدهون التي نأكلها (أو تغيير نوع الدهون التي نأكلها) ليس كافيًا وحده لفقدان الوزن وتقليص محيط خصرنا. نحن نحتاج إلى أن نأكل سعرات أقل، ببساطة، لتفريغ مخزننا.

س: هل السمنة مشكلة حقًا؟

ج: انظر إلى محيط خصرك وقرر.

س: كم من الدهون يجب أن يكون في جسمي؟

ج: أقل.

س: لماذا حرق الدهون فكرة سيئة؟

ج: هل سمعت بالغاز المسيل للدموع من قبل؟

س: ماذا عن تناول مكملات زيت السمك الغذائية؟

ج: زيت السمك مفيد في السمك الطازج فقط (سوى ذلك أمر مشكوك فيه).

س: هل يجب أن أهتم بالدهون المتحولة؟

ج: أتعني السم المتخفي في هيئة دهن؟

س: هل المارجرين أفضل من الزبد؟

ج: 80% من كليهما دهون.

التخزين للشتاء

عادة ما تخزن الدببة الدهون عندما تكون الأمور ميسرة في الصيف. لا يقتصر نفع الدهون على عزلها عن البرد في شهور الشتاء الباردة، بل تغذيها كذلك لنحو مائة يوم.

كذلك تملأ الطيور المهاجرة مخازنها الدهنية قبل طيرانها الفائق طويل المدى إلى مناطق أدفأ، عالمة بأنها ستحتاج إلى كل هذا حتى تصل إلى وجهتها بلا توقف لتناول وجبة خفيفة في الطريق. كثير من تلك الطيور تُضاعف وزنها من الدهون قبل الإقلاع.

يستطيع الإنسان مضاعفة وزنه دهنًا كذلك. لكننا لا نحتاج إلى البيات الشتوي وكل رحلة طيران طويلة تعني جهدًا قليلًا وعربة طعام.

بعض الحيوانات (مثل السناجب) والحشرات تخزن طعامها في خزائن تحت الأرض. يروي أيسوب قصة النملة “الخيرة” التي تعمل جاهدة لتخزين الطعام للشتاء، بينما حشرة الزيز (أو الجرادة) “الشريرة” تنفق الصيف تغني. طبعًا، حين ينتهي الصيف تكاد حشرة الزيز تهلك جوعًا وتطلب وجبة. لكن النملة تعنفها وتأمرها بالابتعاد.

غناء الزيز هو الأعلى صوتًا بين الحشرات، له نفس درجة صوت فرقة موسيقى روك. من ظل يقظًا ليلًا بسبب الضوضاء التي تُحدثها حشرات الزيز خارج نافذته يتفهم لماذا قد تُقصِر نملة مستاءة عن عمل الخير.

على الرغم من أن العبرة من القصة واضحة، فإن حشرة الزيز البالغة ستموت على كل حال. حين تخرج بعد قضاء سنوات عديدة تحت الأرض، تكون مهمة ذكرها أن يغني بأعلى ما يستطيع من صوت، ويتزاوج كثيرًا، ثم يموت جوعًا، كل هذا في نحو شهر أو اثنين. غناؤها ليس عبثًا، بأدنى قدر.

يقسم النمل عمله على أفراد مجتمعه. الملكة تؤدي دورها. وبقية النمل مكلف بمهام مختلفة، من العناية بالصغار، أو تنظيف العش، أو الدفاع عنه. أما شيوخ الذكور الممتعضة فتُرسَل لتنقب. هذه الذكور عقيمة والعش في غنى عنها، لذا فليس عندها سبب للغناء أو حتى لتقدير أغنية غرامية.

أكثر الأشياء في الطبيعة لها هدف. يعرف هذا باسم دارما dharma: البقع التي تكون على العثة، والدهون التي عند الدببة، وأغنية الزيز. لقد أخطأت النملة؛ إذ حسبت أنه على حشرة الزيز العمل كالنملة. ولقد أخطأت حشرة الزيز؛ إذ ظنت أن عليها أن تأكل وتحيا الشتاء كما تفعل النملة. العبرة الحقيقية من القصة هي أنه على كل واحد اتباع غايته في الحياة، وهي، حتى وإن أُسيء أداؤها، أفضل كثيرًا من اتباع غاية سواها.

مباشرة

بعض الناس يظنون أن قدر الدهون الذي نأكله ليس المشكلة، بل أنواع الدهون ومقاديرها غير الطبيعية. لنفهم كيف تعمل الدهون في غذائنا لصالحنا أو ضدنا، من المهم أن نتكلم عن كيميائياتها. ولحسن الحظ، ليس الأمر معقًدا جدًا.

تخيل ثلاث سلاسل طويلة مرتبطة بعمود فقري قصير، شيء يشبه مرمى لعبة الكريكيت الصغير أو حرف E الإنجليزي. كل عصا تُسمى حمضًا دهنيًا. العصي الطويلة الثلاثة مرتبطة بعضها ببعض بنوع خاص من السكر (اسمه جليسيرول)، وهي تشبه أجولة فوق مرمى الكريكيت. هذا المركب يُسمى ثلاثي الجليسريد أو الدهون الثلاثية.

الدهون الثلاثية هي مخزن الطاقة الرئيسي في جميع الحيوانات. تخزن النباتات دهونًا ثلاثية أيضًا في بذورها، وفي المكسرات، والذرة، وحبوب أخرى. بعض النباتات تضيف الدهون الثلاثية إلى اللب الليفي الذي حول بذورها (مثل: الزيتون، والأفوكادو، وبذور النخيل). إجمالًا، نحو 95% من الدهون التي نأكلها يكون في هيئة دهون ثلاثية.

كل الدهون الثلاثية التي نأكلها يمكن استعمالها وقودًا في أجسامنا. لكنها ليست متطابقة. طول عصي/سلاسل الدهون الثلاثية، ووجود روابط مزدوجة مع ذرات الكربون المجاورة في السلسلة، يغير خصائصها المادية. عندما تتواجد روابط مزدوجة في سلسلة الدهون الثلاثية، تُسمى دهونًا غير مشبعة. الأحماض الدهنية التي بلا روابط مزدوجة تُسمى مشبعة. جميع المنتجات الطبيعية فيها توازن بين الدهون المشبعة وغير المشبعة.

السبب الذي يجعل رابطة مزدوجة أو اثنتين فرقًا حقيقيًا هو أنها تصنع تغييرًا بسيطًا في البنية. يشبه هذا مجموعة بطاقات اللعب عندما تكون بعض البطاقات مثنية أو فيها طيات؛ ساعتها لا تصطف البطاقات معًا في كومة منظمة كما هي الحال عندما كانت البطاقات مستوية متينة. كذلك، إلى حد كبير، تكون الدهون المشبعة المستقيمة ذات الهيكل الخالي من الالتواءات أيسر في تراكم الدهون معًا في مساحة صغيرة.

هذا أحد أسباب تنبيه مختصي التغذية كثيرًا إلى قدر الدهون المشبعة الذي نأكله. في الدهون المشبعة سعرات حرارية أعلى من نفس الحجم من سواها. مثلًا، دهن زبد -وهو الغني بالدهون المشبعة- على شريحة خبز، يضيف سعرات حرارية أكثر من نفس الحجم من المارجرين المكون من الدهون المتعددة غير المشبعة، رغم أن كليهما أكثر من 80% دهون.

نحو 40% من الدهون الثلاثية المقيمة في دهون أجسامنا دهون مشبعة. يسري هذا أيضًا على أكثر الحيوانات. لذا، عندما نأكل دهنًا حيوانيًا في اللحم البقري أو الدجاج أو البرجر أو السجق، يصير نحو 40% مما نأكل دهنًا مشبعًا.

في منتجات اللبن مثل الجبن والحليب والمثلجات دهن أكثر من هذا، ونحو 60% منه مشبع. في اللبن قليل الدسم نحو نصف دهن كامل الدسم، لكن يظل 60% منه دهنًا مشبعًا. اللبن منزوع الدسم (المصنوع من لبن أزيلت منه كل القشدة) فيه نحو عُشر الدهون التي في قليل الدسم. وعليه، ففي القشدة عشرة أضعاف الدهون التي في الحليب قليل الدسم. كل اللحوم والألبان التي نتناولها مجتمعة تصنع نحو نصف الدهون المشبعة التي نأكلها عادة. النباتيون المستهلكون للألبان يحذفون كل هذا من طعامهم فيأكلون عادة نحو نصف الدهون المشبعة التي يأكلها سواهم. لكنهم يظلون يأكلون دهونًا. هذا لأن الدهون المشبعة موجودة في الكثير من الأطعمة الأساسية المصنوعة من الحبوب (مثل الخبز، والمكرونة، والكعك، وحبوب الإفطار، إلخ)، وكذلك الزيوت النباتية والأطعمة التي ندهنها على الخبز. على الرغم من أن محتوى هذه من الدهون المشبعة أقل كثيرًا من دهونها غير المشبعة، ونظرًا إلى مقدار ما نأكله منها، يجتمع كل هذا ويتراكم في نظامنا الغذائي.

كثافة قوام الدهون المشبعة هي أيضًا سبب بقاء الدهون مثل الزبد والشحم الحيواني وزبد الكاكاو صلبة في درجة حرارة الغرفة. حتى زيت جوز الهند يبدأ الجمود تحت درجة 24 مئوية (76 فهرنهايت). عند تسخين الدهون المشبعة، تظل لها القدرة على الذوبان. هذا نافع جدًا على شرائح الخبز. لكنها تُستعمل كثيرًا في الطبخ كذلك لمنحنا ذلك الإحساس الجميل بذوبان الطعام في الفم، مثل الشوكولاتة والمعجنات.

الخبز والزبد

ينتج الزبد عند تقليب اللبن/القشدة، فيجتمع الدهن بعد حين في كتل كبيرة بما يكفي لجمعه. هذا هو الزبد.

عرفنا الزبد منذ بدأنا جمع اللبن تقريبًا. يستغرق الأمر 30 ثانية من التقليب قبل تحصيل ما سماه الشاعر الأيرلندي سيموس هيني “نور الشمس المكثف”، وهو وصف غير بعيد كثيرًا عن الحقيقة.

ما زال سبب وضعنا الزبد على الخبز لغزًا. هل هو المذاق الناعم الحريري الذي يذوب في الفم؟ هل لأنه يعمل كطبقة مُليّنة مقاومة للماء من أجل المربى أو العسل الذي لولاه غاصا في الخبز؟ هل لأنه يتمتع بخواص لاصقة تُثبّت الإضافات على الخبز؟

يقال إن إيرل ساندويتش اخترع الشطائر في القرن الثامن عشر. كان قد سئم وقوع الإضافات التي يضعها فوق الخبز وهو يحاول أن يأكل ويلعب بأوراق اللعب في الوقت نفسه، فابتكر طريقة وضع شريحة أخرى في الأعلى، مما يُبقي يديه، وطاولة اللعب، نظيفة.

بلا شك كانت الشطائر الملفوفة موجودة منذ اختراع الخبز. لكن الشطائر لم تصلح أبدًا من غير الزبد لإمساك الأجزاء معًا. والخبز الجاف وحده يتأثر بقطع الخيار الرطبة، فيغدو مترهلًا سريعًا من غير طبقة عزل من الزبد الدهني.

التواءات الدهون

كل التواءات الدهون غير المشبعة تعني أنها عند تصفيتها تغدو سائلة عمومًا (أي زيت) في حرارة الغرفة، مثل أكثر الزيوت النباتية وزيت الذرة وزيوت البذور.

بعض الدهون فيها العديد من الروابط المزدوجة في سلاسلها. تسمى هذه الأحماض الدهنية المتعددة غير المشبعة. بعضها فيها التواء واحد في سلسلتها. وتُسمَّى هذه الأحماض الدهنية الأحادية غير المشبعة.

وجود التواء واحد يجعل الدهون الأحادية غير المشبعة أكثر مرونة من الدهون المشبعة الجامدة المستوية. وعليه، فالدهون الأحادية غير المشبعة موجودة في كل الحيوانات والنباتات حيث تمنح الأغشية مرونة إضافية مع كونها زيتية بما يكفي لحبس الماء خارجًا. نحو 55% من الدهن المخزن في هيئة دهون ثلاثية في جسمنا يكون دهون أحادية غير مشبعة (حمض زيتي بالأساس). كذلك، الدهن الأساسي في لحم البقر وصدر الدجاج وصفار البيض الذي نأكله هو دهون أحادية غير مشبعة أيضًا. لذا، فكل ما يمد الجسم بالدهون المشبعة في غذائنا مصادر أساسية للدهون الأحادية غير المشبعة أيضًا.

هذا الالتواء الوحيد في الدهون الأحادية غير المشبعة يضفي خصيصة نافعة في الطهو، وهي بقاء الزيوت سائلة في حرارة الغرفة مع قابليتها للتجمد عند تبريدها. يعني هذا أن الزيوت الغنية طبيعيًا بالدهن الأحادي غير المشبع، كزيت الفول السوداني، والأفوكادو، والكانولا، تتأثر للغاية بالبرودة القارسة.

تضم الدهون المتعددة غير المشبعة العديد من الالتواءات مزدوجة الروابط في تركيبتها، لذا نسميها عادة زيوتًا لا دهونًا. زيوت الدهون المتعددة غير المشبعة ذات الالتواءات الكثيرة مثل زيت الذرة، وزيت فول الصويا، وزيت بذرة القطن، وزيت بذر الكتان، وزيت القرطم، تظل سائلة تحت درجة حرارة تجمد الماء. هذا أحد أسباب وجودها بكميات كبيرة في الرخويات وأسماك المياه الباردة الزيتية.

اليوم، نحو 20 في المائة مما نستهلك من دهون، هي المتعددة غير المشبعة، وأكثر من نصف هذه تأتي من البذور والزيوت النباتية التي تُستعمل في الطهو وربع آخر يأتي من القمح والحبوب الأخرى في غذائنا. المثير أن أقل من 3 في المائة من دهن جسمنا يتكون من الدهون المتعددة غير المشبعة ذات الالتواءات. ليس هذا لأننا لا نستعملها. كل ما في الأمر أن تلك الالتواءات الزائدة في الزيوت دهون متعددة غير مشبعة لا تُخزن بكفاءة في أجسام البشر.

وعلى النقيض من هذا، تخزن النباتات عادة الدهون الثلاثية في هيئة دهون متعددة غير مشبعة. بعضها فيه مكون أعظم من الدهون الأحادية غير المشبعة (مثل الزيتون، والفول السوداني، واللفت). أحيانًا تستعمل بعض النباتات الخاصة (مثل جوز الهند والكاكاو) دهونًا مشبعة للتخزين. لهذا تتفاوت الزيوت النباتية في خصائصها، سواء في المقلاة أو في خزانة الأطعمة.

زبد الإمبراطور الجديد

على الرغم من ظن البعض أن المارجرين تعد من الدهون المتعددة غير المشبعة القابلة لدهنها على الخبز، فجل هذا دعاية. يظل المارجرين العادي يحتوي على نحو 20 في المائة من الدهون المشبعة. في المقابل، نحو نصف الدهون في الزبد دهن مشبع. وفي النهاية نحو 80% من كل من الزبد والمارجرين دهن.

كانت المارجرين دائمًا محاكاة للزبد، وليست عنصرًا غذائيًا مستقلًا. يُقال إن فكرة المارجرين في الأصل جاءت ردَّ فعل لتحدٍّ وضعه الإمبراطور الفرنسي. في عام 1869 عمت الإضرابات أرجاء فرنسا. كان العمال يثورون. كان الجيش جائعًا ويوشك على دخول الحرب. ولم يتوفر زبد كافٍ لبسطه على الخبز. لكن بدلًا من أن يقول الإمبراطور للجنود بأن يأكلوا البريوش بديلًا للكرواسون بالزبد (الحق أن المرء يحتاج إلى الزبد ليصنع البريوش كذلك)، خرج الإمبراطور بمسابقة علمية لإيجاد بديل رخيص للزبد.

لم يدخل المسابقة سوى مشارك واحد حسبما يُقال، وفاز بلا شك. كانت الفكرة ببساطة هي مزج دهن اللحم البقري (وأكثره دهن مشبع) وبقايا اللبن منزوع الدسم (اللبن بعد قشد القشدة). لم يكن أصفر، لكن فعليًّا قدم الدهن القشدي. لم تصبح المارجرين بديل الزبد الجديد إلا لاحقًا عندما استُبدل زيت الخضراوات بدهن اللحم البقري وصُبغ كل الخليط أصفر.

فساد الدهون

الروابط الثنائية التي تجعل الدهون غير المشبعة زيتية هي نفسها نقطة ضعفها؛ لأنها تجعلها ضعيفة أمام هجوم الأكسجين على نحو فريد، خاصة عندما تُسخَّن. بعبارة أخرى، تعني تلك الروابط الثنائية أن الدهون غير المشبعة مثل زيت الخضراوات تتغير (أو تفسد). قد يكون هذا سبب تفضيل الإنسان قديمًا استعمال الزيوت المشبعة من الزبد ودهن البقر (أي دهون الحيوانات). ليس في الدهون المشبعة روابط ثنائية ولا تفسد بنفس السهولة، لذا يمكن تخزينها مددًا طويلة أو تركها في خزانة الطعام في درجة حرارة الغرفة من غير أن تُفسد رائحة المكان. بلا شك، تُضاف حاليًا مواد حافظة غزيرة في الدهون المتعددة غير المشبعة لمنحها عمرًا أطول على الرف. لذا فلا خوف من فساد زيوت الدهون المتعددة غير المشبعة والمأكولات المصنوعة منها، كالمارجرين. لكن حفظ الدهون غير المشبعة صعب، أو مستحيل، في الأطعمة الكاملة، كالسمك. السمكة، مثلًا، تتغير رائحتها جدًا إن تُركت خارج الماء مدة طويلة. يحدث هذا غالبًا بسبب فساد الدهون المتعددة غير المشبعة في زيوت السمك. ولهذا أيضًا لا بد من حفظ السمك بحرص في الثلج أو في المجمد، واستعماله عاجلًا قدر المستطاع. ومع هذا، تبدأ رائحة السمك تتغير قبل فساده الفعلي بمدة طويلة.

رذاذ

هل سخنت مقلاة مليئة بالزيت من قبل حتى فار الزيت وبدأ يقذف قطرات من الزيت الحارق في كل أرجاء المطبخ؟ ليس هذا لأنك رفعت حرارة الموقد فوق اللازم، أو أنك لا تصنع كما يصنع مشاهير الطهاة في التلفاز. السبب هو الكيمياء.

الحق أن الزيت الخالص لا يتناثر ولا يتفجر عند تسخينه. لكن الماء يفعل. كلنا نعلم ثورة فقاقيع الماء المغلي على الموقد.

لا يذوب الزيت في الماء ولا الماء في الزيت. إنهما ينفصلان كل في طبقته الخاصة. ينزل الماء إلى الأسفل فيما يصعد الزيت إلى الأعلى، كما يحدث لبقع النفط في المحيط.

في المحيط ماء أكثر من الزيت. لكن في المقلاة يكون الزيت عادة أكثر من الماء. لذا فأي ماء يختلط بالزيت عرَضًا ونحن نطهو يُحبَس تحت طبقة الزيت. مع تسخين المقلاة، يسخن هذا الماء المحبوس أكثر وأكثر حتى يتحول فجأة إلى فقاعة بخار، تصعد وتنفجر من سطح الزيت، ناثرة قطرات الزيت في كل مكان.

إحدى طرائق منع هذا هي تسخين المقلاة أولًا، قبل إضافة الزيت (مما يؤدي إلى تبخير أي ماء من المقلاة). حيلة أخرى هي تخزين المقلاة وعليها منشفة ورقية أو تجفيفها مسحًا قبل الاستعمال، مما يزيل أي ماء متبقٍ فوق سطحها.

من المواقف الأخرى التي يتناثر الزيت فيها علينا عادة لحظة إسقاط الطعام في مقلاة قلي ساخنة. نسمع طقطقة في المقلاة (ونحس بتناثر الزيت الساخن الذي يحرق أذرعنا المكشوفة). يحدث هذا فقط لأن الماء الحر على سطح الطعام يغرق فورًا تحت الزيت، فيسخن جدًا، ثم يصير بخارًا فينفجر، صانعًا أثر الطشيش الذي يميز الطبخ بالزيت.

تجفيف الطعام بمنشفة جافة أولًا سيقلل الرذاذ. ترك الطعام خارجًا مدة قبل قليه (أي في المجمد دون غلاف) يتيح جفاف السطح أيضًا. كسوة الطعام بتتبيلة الخبز أو الدقيق تمتص الرطوبة، وكذلك السفع (السلق السريع) قبل التجفيف ثم القلي.

وإن لم ينجح أي شيء آخر، فلك دائمًا أن ترتدي مئزر المطبخ وتضع غطاء المقلاة سريعًا.

الرابطة الثنائية الوحيدة في الدهون الأحادية غير المشبعة (كزيت الزيتون) تجعلها أكثر مقاومة للفساد في خزانة الطعام أو أقل حاجة إلى ذلك القدر الكبير من المواد الحافظة في الزجاجة مقارنة بالدهون المتعددة غير المشبعة. جعل هذا الأمر الطهو بالدهون الأحادية غير المشبعة شائعًا جدًا طوال التاريخ، خاصة في مطبخ البحر الأبيض المتوسط.

تصنع الروابط الثنائية فرقًا في الأبخرة السامة التي تتصاعد من المقلاة عند الطهو بها. أشهر هذه هي الألدهيدات، والتي تتكون عندما تتمزق الأحماض الدهنية بالحرارة. كلما زادت الحرارة، زاد تكون الأبخرة السامة، لذا يخرج أقصى قدر منها عند القلي العميق أو القلي في المقلاة، وإن كان واردًا خروجها أثناء الطهي بالتحمير. تُخرج الزيوت النباتية ذات الروابط الثنائية عادة ألدهيدات وغيرها من الأنواع السامة أكثر مما تفعل الزيوت ذات الروابط الثنائية الأقل أو عديمة الروابط الثنائية. لكن بغض النظر عما نستعمل، إن سخناه كفاية، فسينال أعيننا بعض الدخان.

نقطة الدخان الخطيرة

إذا سُخن الزيت أكثر وأكثر، فعند نقطة ما (تُسمى نقطة التدخين) سيتبخر، مُطلِقًا دخانًا يميل إلى الزرقة إذ يتصاعد. هذه العلامة الدخانية العاجلة تعني أن الزيت أسخن من أن يُطهى به. عليك أن ترفعه من فوق الموقد من فورك (وكأن هذا لم يكن واضحًا تمامًا) وإلا امتلأ مطبخك وبيتك بجزيئات الدخان السام ورائحة الدهن المحترق الكريهة.

رائحة مطاعم الوجبات السريعة (المعهودة جدًا) تأتي من حرق الجليسرول (الأكوام التي فوق جذوع الأحماض الدهنية الثلاثة في تشبيه الدهون الثلاثية بمرمى الكريكيت، هل تذكرونه؟). وعليه، قد يتصاعد الدخان السام من أي زيت طهو سواء كان أكثره مشبعًا، أو أحادي اللاتشبع، أو متعدد اللاتشبع.

لكن الزيت المشبع يحترق أسرع قليلًا في المقلاة (أي يتبخر عند درجة حرارة أقل) من زيوت الدهون المتعددة غير المشبعة. السبب أن الحرارة (الطاقة) في غياب الروابط الثنائية لا تجد موضعًا تذهب إليه. وعليه، فعادة يلزمنا استعمال دهون مشبعة (كزيت جوز الهند) أكثر من الدهون المتعددة غير المشبعة عند الطهو على حرارة عالية، وإلا جفت المقلاة. قد تؤثر الشوائب الأخرى المخلوطة بالزيت في تقليل نقطة تدخينه. مثلًا، لزيت الزيتون البكر الأقل معالجة نقطة تدخين أقل بمائة درجة من زيت الزيتون الخفيف (عالي التكرير) الذي أزيل منه اللون والفلافانولات والعناصر الأخرى التي تلتقط النار سهلًا. لهذا فالزبد المنقَّى (المعروف بالسمن) ينجح في الطهو وهو ذو شعبية، لأن بروتينات اللبن (التي كانت تجعله يتبخر) أزيلت منه، مما رفع نقطة تدخينه نحو 50 درجة.

ليست نقاوة الزيت وتشبعه ما يجعلانه يتبخر فقط. إعادة استعمال زيت الطهو مرة بعد مرة تخفض نقطة تدخينه أكثر وأكثر بإطلاق الأحماض الدهنية والجليسرول من مركب الدهون الثلاثية، فتساعدها على الهرب. هذا أحد أسباب رائحة متاجر رقائق البطاطا الشديدة (وهي متاجر معروفة بإعادة استعمال زيتها).

الغاز المسيل للدموع

عند تسخين الجليسرول الموجود في الدهون الثلاثية بشدة، يتكسر إلى مركب كيميائي يُسمَّى الأكرولين. والأكرولين مادة سيئة مسببة للتهيج بدرجة عالية. بل إنها استعملت في الحرب العالمية الأولى غازًا مسيلًا للدموع (تحت الاسم الحركي “بابيت”).

لكن استعمالها كسلاح دمار شامل لم ينجح. كان هذا لأن الأكرولين إذا تعرض للهواء جرى عليه تفاعل كيميائي تلقائي حيَّده فبطلت آثاره السامة (مع بقاء رائحته).

حُلت هذه المشكلة في النهاية بيد اثنين من الكيميائيين كانا يعملان في الإدارة الفرنسية للحرب الكيميائية. في تجاربهما، وجدا أن في استطاعتهما إضافة مواد كيميائية أخرى بقدر ضئيل لمنع التفاعل المحيِّد. الأهم من هذا أنهما أدركا إمكانات تلك الكيميائيات الأوسع في حفظ أشياء أخرى من الفساد، مثل الطعام والمطاط وفئة كاملة من المنتجات الأخرى التي كانت تتحلل في الهواء. وقد سميا هذه المركبات “مضادات أكسجينية”. اليوم نعرف هذه المركبات باسم مضادات الأكسدة ونحبها. لكن كل هذا جاء من البحث عن طريقة أفضل لقذف الألمان بالغاز.

اليوناني الضخم السمين

سواء كانت الدهون مشبعة أو أحادية غير مشبعة أو متعددة غير مشبعة، فهي تزودنا بالطاقة اللازمة للأيض. كل الدهون ستصيبنا بالسمنة إن أكلنا منها أكثر من اللازم مقارنة بنشاطنا البدني. لذا فوصف هذا الدهن أو ذاك بالنافع أو الضار يرجع في النهاية إلى آثاره الأخرى سوى أثره على توازن السعرات الحرارية.

أحد أسباب ما سمعناه منذ سنوات عديدة عن أن المشكلة ليست في قدر ما نأكل من دهن بل في نوعه، هو ما يُطلق عليه “مفارقة البحر الأبيض المتوسط”.

ترجع القصة إلى خمسينيات القرن العشرين، عندما ساءت الأمور للغاية من حيث أمراض القلب والسكر في الولايات المتحدة الأمريكية، بينما كانت المعدلات في دول حوض البحر المتوسط مثل اليونان وإيطاليا قد بلغت حدًا أدنى قياسيًا. لم يكن هذا منطقيًا، لأن غذاءهم يحوي كمًا كبيرًا من الدهون، والمفروض أن الدهون ضارة بك. خرجت فكرة عندئذ، أغفلت حقيقة الدمار الذي كان عليه حوض المتوسط من حرب انتهت من عقد واحد (فكان الناس لا يملكون ثروات كبيرة ويعيشون على ما تخرجه الأرض مباشرة بدلًا من الإنتاج الكمي الضخم)، تتساءل إن كان في حمية البحر الأبيض المتوسط شيء مميز له أثر واقٍ. لكن المكون (أو المكونات) الأساسية وراء هذا السحر الصعب ظلت غامضة.

حمية البحر الأبيض المتوسط التقليدية هي نمط من تناول الكثير من الحبوب والخضراوات والبقول والفواكه والمكسرات والسمك وزيت الزيتون غير المعالجة كلها، مع كميات مخفضة من اللحوم واللبن ومنتجات الألبان والسكر. عادة يُشرب العصير مع الوجبات باعتدال. تكون محصلة هذا كله في الأساس نسبة مرتفعة من السعرات مصدرها النباتات (الكاملة) مقارنة بنسبة السعرات من المنتجات الحيوانية أو الأطعمة عالية المعالجة.

لكن من كل المكونات المختلفة في حمية البحر المتوسط، أشارت الأصابع إلى القدر الكبير من الدهون الأحادية غير المشبعة التي يتناولونها مقارنة بالدهون المشبعة التي يُظن أنها توقف القلب، والشائعة في الدول الأخرى. بينما كان الأمريكيون يستعملون الزبدة ودهن الحيوان والزبد الصناعي، كان زيت الزيتون في قلب مطبخ البحر المتوسط تمامًا.

فائق البكارة

بالضغط على لحم الزيتون وعصره، ينزل سائل زيتي أصفر؛ هذا هو زيت الزيتون فائق البكارة.

البكارة هنا تعني أن الزيت استُخرج بضغط الزيتون فقط، بلا أي تكرير، أو حرارة، أو إضافات، أو معالجة كيميائية. لاستخراج بقية الزيت من اللب، تحتاج إلى هذه الأمور. هذا ما يُطلق عليه عادة زيت الزيتون النقي.

بسبب دور زيت الزيتون الأساسي في مطبخ البحر المتوسط، أُجريت العديد من الدراسات حول منافعه الصحية المحتملة. مثلًا، في إحدى الدراسات، قدم الباحثون للمشاركين بضع ملاعق من زيت الزيتون فائق البكارة كل يوم، ثم وجدوا أن مخاطر الأزمات القلبية أو الموت في الشباب انخفضت بدرجة ملحوظة.

كل أنواع زيت الزيتون تتكون من نحو 100 في المائة من الدهون، أكثرها من الأحادية غير المشبعة (55-85%) مع محتوى ضئيل من الدهون المشبعة (8-25%) والمتعددة غير المشبعة (5-20%). إن كان خليط الدهون الخاص هذا هو ما يجعل زيت الزيتون نافعًا لك هكذا، لما كان للزيت فائق البكارة فضل على زيت الزيتون النقي. من المؤكد حقًا أن أكل المكسرات الغنية أيضًا بالدهون الأحادية غير المشبعة (لكن تختلف كثيرًا فيما عدا ذلك) يقدم كثيرًا من نفس المنافع الصحية.

لكن زيت الزيتون فائق البكارة يحوي مختلف الأشياء التي تأتي من لحم الزيتون وتجعله فريدًا في طعمه ورائحته ولونه. اليوم، انتقل كل التركيز من الدهون الصحية إلى المنافع المحتملة لبعض الأشياء الأخرى (مثل البوليفينولات)، لذا فالتكرير ليس منطقيًا في نظر المهتمين بالصحة.

في مطبخ البحر المتوسط، يُستعمل زيت الزيتون فائق البكارة عامة بلا تسخين أو على درجة حرارة منخفضة. لكن، في معظم الدول الغربية نستعمل الزيوت في الطهو الساخن، عند القلي، أو السلق، أو الخبز. لذا فعلى الرغم من أننا قد نشتري زيت زيتون غاليًا من أجل صحتنا، يظل عيب بقية الأشياء التي في زيت الزيتون فائق البكارة أنها لا تتحمل حرارة المقلاة. أي فوائد قد تطير مع الدخان إذن.

الكوليسترول

كان التفسير المنطقي لمفارقة البحر المتوسط أنه بينما ترفع الدهون المشبعة مستويات الكوليسترول في أمريكا، فتفضيل اليونانيين لزيت الزيتون وقدر معتدل من الدهون الحيوانية كان يعني أن مستويات الكوليسترول عندهم أقل كثيرًا، لذا فمشكلات القلب أقل.

صحيح تمامًا أن الأنظمة الغذائية الغنية بالدهون المشبعة لها أثر أكبر على معدل الكوليسترول في دمنا من أثر الدهون غير المشبعة. وإن كان من منفعة في اجتناب تناول الأطعمة الغنية بالدهون المشبعة (كالزبد) أو التحول إلى الأطعمة الأقل دهنًا مشبعًا (مثل المارجرين أو زيت الزيتون) فهي غالبًا بسبب خفضها معدلات الكوليسترول الضار في دمنا.

بسبب الرابط بين الكوليسترول والدهون المشبعة، وبين الكوليسترول والأزمات القلبية، ساءت سمعة الدهون المشبعة بلا جدال في النصف الثاني من القرن العشرين. وقد بلغت فاعلية الحملة أنه على الرغم من توصية الأطباء مرضاهم بتناول المارجرين، فقد قل استهلاك الأجيال الحديثة من الدهون المشبعة إلى ما دون نصف استهلاك الناس منذ خمسين عامًا.

اختلال التوازن

في النصف الثاني من القرن العشرين، تغيرت نسبة الدهون في متوسط النظام الغذائي جذريًا. لم تكن الدهون في طعامنا أقل نسبة كثيرًا. بدلًا من ذلك، بدأ الناس، بناءً على مفارقة البحر المتوسط وتفسيرها المقترح، استبدال الدهون المتعددة غير المشبعة بالدهون المشبعة (مثل استبدال المارجرين والزيت النباتي بالزبد والدهن الحيواني). اليوم ثلث الدهون في غذائنا فقط مشبعة. الغالبية العظمى من بقية الغذاء هي الدهون الأحادية غير المشبعة مع هامش من الدهون المتعددة غير المشبعة يمثل 8-10% من إجمالي الدهون التي نأكلها.

مشكلة هذا التحول هي أن الدهون في غذائنا أكبر بكثير من مجرد مصدر للخطر على مستويات الكوليسترول في دمنا أو محيط خصرنا. فهي لها طائفة كبيرة من الوظائف الحيوية في جسم الإنسان، بدءًا من الحفاظ على الجهاز المناعي ووظائف المخ، إلى تنظيم تدفق الدم والحماية من الإصابة.

بعض الدهون المتعددة غير المشبعة أساسية حتمًا لصحتنا. بل إنها كانت تُعرف في وقت ما باسم فيتامين إف، ولا بد من تحصيلها مما نأكل، ككل الفيتامينات الأخرى. هذا لأنه رغم قدرة جسمنا على صنع بقية أنواع الدهون وتخزينها، فهو غير قادر على صنع الأنواع النافعة التي بها روابط ثنائية، خاصة التي تكون روابطها في الموضع الثالث أو السادس تحديدًا من نهاية سلسلة الحمض الدهني. أوميجا هو الحرف الرابع والعشرون والأخير في الأبجدية اليونانية، لذا تُسمى نهاية سلسلة الحمض الدهني أوميجا. تُسمى الدهون الأساسية عادة الأحماض الدهنية أوميجا-3 (-3) وأوميجا-6 (-6). تركيبها الكيميائي الفريد يجعلها عظيمة النفع في صنع أشياء أخرى، منها مركبات كيميائية أساسية في التنظيم والإشارة.

على الرغم من أن البشر لا يمكنهم صنع تلك الدهون الخاصة، فلا تجد النباتات مشكلة في هذا على الإطلاق. وكذلك تحتوي الدهون السمكية والحيوانية على قدر نافع من هذه الدهون الأساسية (لأن جل غذائها أو كله نباتي).

لكن حقيقة أننا لا نستطيع العيش من غير هذه الدهون لا تعني أنها نافعة لنا بالقدر العظيم والنسب غير الطبيعية التي نتعاطاها بها.

تتشابه دهون أوميجا-3 وأوميجا-6 كثيرًا (فيهما رابطة ثنائية واحدة في موضع مختلف فقط)، لذا يتنافسان في الكثير من مسارات التفاعل الكيميائي في أجسامنا. ومع هذا، فنتائج تفاعلات دهون أوميجا-3 شديدة الاختلاف كيميائيًا ووظيفيًا عن نتائج أوميجا-6. لذا فالمحصلة النهائية لما يحدث عندما نأكل الدهون المتعددة غير المشبعة تعتمد جزئيًا على قدر أوميجا-3 مقارنة بقدر أوميجا-6 فيها. يُظن أن أفضل شيء للصحة هو تناسب واحد لواحد بين أوميجا-3 وأوميجا-6 (أو أقرب ما يكون إلى هذا). لكن في الغذاء المعاصر المعتاد، نتناول نحو 12 قدرًا من دهون أوميجا-6 مقابل كل قدر من أوميجا-3، وعادة يزيد الحد عن هذا كثيرًا. بلا شك لخلل التوازن هذا أن يُخل بتوازن كيميائيات الإشارة التي تُصنع، وله آثار محتملة على صحتنا، تشمل الاكتئاب، والأزمات القلبية، والذبحات، والتهاب المفاصل، وهشاشة العظام، والالتهابات، وبعض أنواع السرطان.

يُوصى الآن صحيًا على نطاق واسع، لمعالجة خلل التوازن هذا، بزيادة ما نتاوله من دهون أوميجا-3. أشهر مصادر دهون أوميجا-3 في طعامنا هي النباتات التي نأكلها، وكذلك أي دهون من الحيوانات التي تأكلها. أكثر صفار البيض دهون مشبعة، لكننا نستطيع زيادة محتواه من دهون أوميجا-3 بإطعام الدجاج نباتات غنية بأوميجا-3 (مثل بذور الكتان، والسانتولينا) أو زيت السمك أحيانًا. هذا لأن دهون أوميجا-3 المتعددة غير المشبعة تكون أعلى خاصة في الأسماك الدهنية التي تعيش في المياه الباردة وفي الزيت الذي يُستخلص منها. لهذا توصي أكثر الإرشادات بأن نزيد تناولها عن الحد المعتاد، ويتناول كثيرون مكملات غذائية تحوي زيت السمك بدلًا منها. وبالطبع، تعيش شعوب مثل الإسكيمو على الصيد.

قصة مريبة

من المغري أن نظن بأن العودة إلى العادات الغذائية “الطبيعية” ستسمح لنا بتجنب أمراض النظم الغذائية الغربية المعاصرة.

قبل انتشار حمية الباليو، كان يظن الناس أن معدلات أمراض القلب بين شعب الإنويت في جرينلاند القطبية منخفضة بما يناقض قدر ما يأكلون من الدهون المشبعة (من دهون الفقمات والحيتان)، التي كان يُظن في وقت ما أنها سبب قوي لأمراض القلب. كذلك فإنهم لا يأكلون الخضراوات ولا الفاكهة، وهو مما كان لا يوصى به غذائيًا إطلاقًا.

لعلهم طوروا مناعة جينية سرية؟ لعل في طعامهم شيئًا آخر أعطاهم قدرة خاصة على قهر وحش الدهون الذي كان يسمم أمريكا؟ لعلنا إن حصلنا بعض ما يحصلون فقط لنجونا مثلهم؟

كان في غذاء الإنويت مستويات أعلى من دهون أوميجا-3 (من أكل الأسماك الدهنية وكائنات أخرى تتغذى على الأسماك الدهنية). لذا فقد يكون زيت السمك هو السر؟ فكرة رائعة. لهذا تجد أن زيت السمك أحد أكثر المكملات الغذائية شهرة في أي صيدلية.

المشكلة أن الإنويت ليسوا في مأمن حقًا من أمراض القلب. الحق أن عندهم، إجمالًا، معدل سكتات دماغية أعلى ومتوسط أعمار أقل مقارنة بالأوروبيين العاديين. وفوق هذا، أخفقت التجارب الأخيرة على مكملات زيت السمك الغذائية في إثبات منافع واضحة له في خفض مشكلات القلب. لذا فإن القصة كلها تفوح منها رائحة مريبة.

نفس الخصائص التفاعلية التي تجعل أوميجا-3 نافعة للصحة تجعلها كذلك صعبة التخزين في درجة حرارة الغرفة مددًا طويلة بلا فساد. وما أن تفسد حتى فلا يقتصر الأمر على عدم عمل تلك الدهون الزنخة، بل تصير كريهة وقد تؤذي صحتنا فعلًا. على الأقل في جرينلاند لا يفتقر أحد إلى الثلج.

إضافة إلى زيادة ما نتناوله من أوميجا-3 في هيئة زيت السمك وما أشبهه، يوصى أيضًا بطريقة أخرى لإعادة التوازن الصحي بين دهون الأوميجا، وهي تقليل ما نتناول من دهون أوميجا-6. هذا أحد الأهداف الأساسية لحمية الباليو، التي تقلل أكل الحبوب والبذور وزيوتها (أي معظم دهون أوميجا-6 المتعددة غير المشبعة في غذائنا)، واستبدال الزيوت التي أكثرها دهون أحادية غير مشبعة (مثل زيت الزيتون) والدهون المشبعة كالزبد، بها. بهذه الطريقة نستطيع أن نوظف الوحش المعدَّل -أي الدهون المشبعة- لصالحنا بدلًا من ضررنا.

ضار

في السبعينيات والثمانينيات، كان اجتناب الدهون المشبعة (الحيوانية) بأي طريقة في قلب أي نظام غذائي صحي. طردنا الزبد، وشحم الحيوان، والزيوت الحيوانية، وزيت النخيل، وزيت جوز الهند. خلق هذا فرصة لنوع جديد من الدهون للدخول إلى أجسامنا وهو الدهون المتحولة. وعلى الرغم من أنها وُصفت بالمنقذة، تبين في النهاية أنها أسوأ الدهون قاطبة، وبلا منافسة تُذكر.

تنشأ الدهون المتحولة أساسًا عند تسخين الدهون غير المشبعة (التي تكون عادة زيوتًا نباتية) أكثر من اللازم. قد يكون هذا مُتعمدًا، لصنع الزبد الصناعي الجامد مثلًا (مثل كريسكو Crisco) أو السمن من الزيت النباتي السائل. مثلًا، بعض منتجات فاناسباتي Vanaspati (سمن نباتي) التي تُباع في الهند قد يكون أكثر من 20% منها دهونًا متحولة.

أحيانًا تتكون الدهون المتحولة عرَضًا دون قصد، مثلًا، عندما تحمل المنتجات الخارجة من المقلاة آثار الدهون المتحولة التي نشأت في الزيت النباتي المسخن فوق اللازم المعاد استعماله، والذي قُليت فيه.

كان اكتشاف طريقة صنع الدهون المتحولة ثوريًا حتى إن مخترعيه استحقوا جائزة نوبل عام 1912.

في الدهون المتحولة مهارة خادعة. بدلًا من أن تصنع الروابط الثنائية التواءً لطيفًا في هيكل الجزيء كما في الدهون غير المشبعة، تلتوي الدهون المتحولة، مما يسبب استقامة وتيبسًا مفرطين في عمودها الفقري الكربوني.

هذا الهيكل القائم يعني أن تتصرف الدهون المتحولة تصرف الدهون المشبعة عند الطهو. تتماسك جيدًا وتكون شبه صلبة في درجة حرارة الغرفة، كالزبد تمامًا. وقد يكون لها نفس القوام الذي يذوب في الفم وتمنح بديلًا محببًا لدهون أخرى في المخبوزات. الحق أنه بمقارنة الدهون المتحولة بالزبد رأسًا برأس، نجد أننا نستطيع الاعتماد عليها أكثر من الزبد في إنتاج مخبوزات منفوشة متجانسة.

ولأنها مخادعة، فللدهون المتحولة عمر أطول على الرف، وهي أقل عرضة للفساد من الدهون المتعددة غير المشبعة الموجودة في الزيوت النباتية المعتادة. كذلك لا تحترق الدهون المتحولة سهلًا كالدهون المشبعة، فتكون الحرائق والدخان في مطاعم الوجبات السريعة أقل. وفوق هذا إنتاجها الكمي أقل سعرًا من إنتاج الزبد.

كل هذه الكيمياء الغذائية بلا ثمن مقابل. في ظهور الدهون المتحولة، صار ممكنًا أن نعد المنتجات صحية (فتشتهر) لأنها خلت من غول الغذاء، الدهون المشبعة، وآثارها المدمرة على مستوى الكوليسترول عندنا. لا غرو أننا جميعًا تحولنا إلى المارجرين والزيوت النباتية في السبعينيات.

سقوط المارجرين

أتى على المارجرين حين من الزمن كانت فيه الملكة. كانت رخيصة ولا يكاد يُرى فرق بينها وبين الزبد. تغنى الأطباء بفضائلها وأوصوا جميع مرضاهم بالتحول إليها لقلة الدهون المشبعة بها وخلوها من الكوليسترول، وكلاهما سبب مهم لأمراض القلب.

لكن أظهرت دراسة تابعت 120.000 ممرضة أكثر من ثمانين عامًا في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، أن الأكثر تناولًا للدهون المتحولة كن الأكثر عرضة لأمراض القلب والوفاة بسببها. أعقب ذلك ربط مرض السكري، والموت المفاجئ، ومشكلات أخرى بتناول الدهون المتحولة. وفي عام 1980، كانت المارجرين المصدر الأساسي للدهون المتحولة.

بدا الأمر جيدًا على الورق وفي المطبخ. لكن الأطباء كانوا على خطأ. وكلنا يعرف إلامَ ينتهي مثل هذا. بدت الدهون المتحولة الدواء السحري، لكنها كانت في جوهرها سمًا. مات الناس وهوت مبيعات المارجرين من فورها إلى الجحيم.

تبين أن الأمر كان فيه خدعة (خفية). نفس الكيمياء فائقة المقاومة التي صنعت من الدهون المتحولة أعجوبة، جعلتها قاتلة لصحتنا. الحق أن مقارنة الدهون المتحولة بأي مكون آخر في غذائنا رطلًا برطل يُظهر تفوقها في زيادة مخاطر الوفاة المبكرة. ويبدو أنه ليس للدهون المتحولة حد آمن. حتى أقل قدر كافٍ لزيادة مخاطر الوفاة والمرض.

عند إدراك هذا، حاول منتجو مصادر الدهون المتحولة الشائعة سابقًا، مثل المارجرين والزبد النباتي، محاولة بائسة للتوبة. اليوم أكثرها يحتوي أقل من 0.2% من الدهون المتحولة. لكن بعض الأطعمة المعالجة والقابلة للدَهن ما زالت تحوي دهونًا متحولة. أكبر المتهمين في هذا فشار الميكروويف، وبعض أنواع البسكويت، والكعك، ورقائق البطاطا، والمخبوزات اللذيذة. أحيانًا تُذكر الدهون المتحولة في بطاقات معلوماتها الغذائية. إن لم تُذكر، فالأرجح أن منتجيها لا يبالون بصحتك. غالبًا ستُفرض قريبًا اختبارات إجبارية وذكر المحتوى من الدهون المتحولة في كثير من الدول.

تحولت جميع سلاسل مطاعم الوجبات الجاهزة والسريعة المشهورة إلى استعمال زيت الكانولا الخالي من الدهون المتحولة. وعلى الرغم من أن هذا يقلل الضرر الصحي لأطعمتهم، فإنه لا يجعلها صحية. الأطعمة المقلية قليًا عميقًا بيد مطاعم عديمة الضمير تظل تحمل خطر تكوين دهون متحولة، خاصة تلك التي تعيد استعمال الزيوت النباتية لتقليص التكاليف. مرة أخرى، من المتوقع أن تلحق القوانين في النهاية بهؤلاء، إذ ظهرت دعوات لمنع الدهون المتحولة من جميع المطاعم وسلاسل الأطعمة السريعة. في بعض الأماكن جُرمت هذه الأشياء. لكن في الكثير من الدول النامية، تظل الدهون المتحولة خطرًا عظيمًا، خاصة في الهند وجنوب آسيا، حيث يُعد السمن النباتي والقلي العميق من علامات الطهو المنزلي وأسسه.

أخيرًا، بعض الدهون المتحولة تظهر بصورة طبيعية في اللحم (دهنه) ومنتجات الألبان مثل الجبن والزبد. لكنها ليست الأنواع الصناعية التي سببت العديد من المشكلات في المارجرين، وهي مختلفة كيميائيًا؛ إذ تحوي دهونًا متحولة مع دهون غير مشبعة. هذه الدهون المتحولة الطبيعية لا يُظن أنها مصدر مشكلة كبيرة لصحة الإنسان.

الخلاصة

إنه عالم متقلب. كانت الدهون المشبعة سيئة والآن لم تعد كذلك. وكانت الدهون المتحولة والدهون المتعددة غير المشبعة الحل ثم صارت المشكلة. أنقذ زيت السمك الإسكيمو، لكنه الآن يفوح برائحة الريبة. كان تقليص اعتمادنا على الأنظمة الغذائية قليلة الدهون أساسيًا، لكننا الآن نفرط في أكل السكريات/النشويات.

ذات مرة قال بول نيومان من داخل سيارة السباق التي يقودها إنه إذا كان العالم مقلوبًا، فمن العبث تركيب مكابح. هذا ما يحس به الكثيرون نحو أنظمتهم الغذائية الآن تمامًا. إن كنت منقلبًا لا محالة ولا منطق في أي شيء، فلم تُبطئ؟ وما فائدة تركيب مكابح على أي حال؟

لكننا لم نبلغ ذلك بعد. ما زال أمامنا وقت طويل لإدارة المقود والإبطاء. واستهداف الدهون التي نأكلها قد يصنع فرقًا كبيرًا.

الدهون التي نأكلها ليست جيدة ولا سيئة في ذاتها، لكن تكون ذلك بطريقة استخدامنا لها. واضح أن الإفراط في تناول الدهون يزيد سعراتك الحرارية الداخلة ومحيط خصرك بالتبعية. لذا فتقليل الدهون غير اللازمة خطوة أولى بسيطة لتقليل السعرات كذلك.

أكثر الدهون المشبعة في غذائنا تأتي من اللحوم ومنتجات الألبان. لذا إن كنا نستطيع اكتساب عادة غذائية بأكل اللحم قليل الدهون أو استبدال شيء آخر لا دهن فيه بقدر من اللحم (كاستبدال البقول باللحم المفروم) لما خسرنا سوى السعرات الحرارية.

أكثر الدهون غير المشبعة في غذائنا (وكذلك ربع الدهون المشبعة) من الزيوت والأطعمة القابلة للدَهن، وهي تخلق بسعراتها حول خصرنا ما يوازي كل ما نأكل الآن من دهون مشبعة. من الممكن أن نطبخ بلا زيت، أو بزيت أقل، على أسوأ تقدير. اليوم عندنا قدور مقاومة للالتصاق، وملايين الأعشاب والتوابل، وقدور الضغط، وقدور الطهو البطيء، وفائض من الأطعمة الكاملة غير المعالجة، وطائفة من الفرص الأخرى للتخلص من الزيوت. هذا يعني تقليل السعرات، لا تقليل الطعام. وهو يعني كذلك تقليل الغاز المسيل للدموع.