التصنيفات
الصحة العامة

أسطورة الجينات: ليس الأمر كله بيد الجينات

الكلمة الشائعة هذه الأيام في مجال الطب هي “علم الجينات” genetics. فمنذ أن تم اكتشاف وجود جزيء بروتيني، دي.إن.أيه DNA، بكل خلية من خلايا الجسد يحتوي على جينات تحمل إرشادات تحدد سلوك الخلايا ومن ثم الجسد، والعلماء عاكفون على فك شفرات تلك الجينات والبحث عن طرق لتغييرها بما يصب في صالحنا.

أحد أول النجاحات، والكوارث في ذات الوقت، في مجال الهندسة الوراثية كانت تنحصر في النباتات والكائنات البسيطة. في عام 1989، بدأت شركة يابانية في بيع أحد أشكال التربتوفان Tryptophan، وهو حامض أميني يستخدم كمكمل غذائي، تم إنتاجه بطريقة جديدة باستخدام الهندسة الوراثية. وكان التربتوفان الناتج الأرخص سعرا في السوق ومن ثم فقد شق طريقه كأحد مكونات المكملات الغذائية. ولكن بدلا من أن ينفع الناس أصابهم بالمرض. فقد توفى 27 شخصا وأصيب 1000 آخرون بالإعاقة الدائمة. وحتى الآن لا يعلم أحد طبيعة ما حدث.

تشمل الأطعمة المعدلة جينيا حاليا، الطماطم والصويا والشعير. ومع ذلك، فإن ما يقرب من نصف الأطعمة المتاحة بالأسواق هي ناتج نوع أو آخر من أنواع الهندسة الوراثية. من المحتمل أن تكون قد تناولت أحد تلك الأطعمة دون أن تعلم. إن الهدف من تعديل فول الصويا جينيا هو أن يصبح مقاوما لمبيدات الأعشاب. بمعنى آخر، فإن فول الصويا المعدل جينيا يتم رشه بمضادات الأعشاب التي تقتل أي نبات باستثناء فول الصويا مما يزيد من إنتاجه. أما نحن المستهلكين فنأكل بالتالي بعض بقايا هذه المضادات العشبية بجانب الصويا المعدلة جينيا فتستقر في أجسامنا تلك الكيميائيات الضارة. بينما تحقق شركة الكيميائيات الزراعية “مونسانتو” أرباحا طائلة (وهي الشركة التي تملك حقوق إنتاج السلالة الجديدة من فول الصويا ومضاد الأعشاب الذي يقاومه هذا المنتج) فإن الدعاية تخبرنا بأن هذه التقنيات المتقدمة تعمل لصالح البشرية. وتدعي شركة مونساتو وهي رابع أكبر شركة كيميائيات في الولايات المتحدة الأمريكية أننا بحاجة إلى هذه التقنيات الحيوية الزراعية لتوفير الغذاء للبشرية دون إلحاق الضرر بالبيئة، وتقوم الشركة بإنفاق ملايين الجنيهات الإسترلينية في المملكة المتحدة وحدها لإقناع العامة بتقبل منتجاتهم الغذائية المعدلة جينيا.

الأمراض الجينية

تلعب العيوب الجينية دورا مهما في بعض الأمراض كالتليف المتكيس ومتلازمة داون وفرط الهوموسيستين في البول Homocystinurea وأخرى أقل شيوعا. وقد اتسعت قائمة الأمراض تلك لتشمل تقريبا كل أمراض الفساد Degeneration شاملة الأورام السرطانية وأمراض القلب. وقد ترك ذلك انطباعا بأن كل جين يحمل صفة ما أو مرضا ما يجعل الشخص إما مقاوما وإما عرضة لعلة ما. وقد أخذ علماء من خلال تقنيات علمية شديدة التقدم في فك تلك الشفرات الجينية الخاصة بالأمراض، على أمل أن يصبح بالإمكان مستقبلا تفادي بعض الأمراض من خلال تعديلات جينية تماما كما حدث للطماطم المعالجة وراثيا.

إن تلك الطريقة المباشرة لوصف الجينات ليست فقط غير دقيقة، بل تدعو أيضا إلى الاستسلام وكأن لسان الحال “حسنا”، لو كان لأمر تحكمه الجينات، فما العمل؟ لا حيلة لي إذا، فقد خلقت كي أكون سمينا وأصاب بالربو الشعبي وأموت مثل آبائي في السبعينات من عمري”.

ليس الأمر كله بيد الجينات

يقول العالم فريتجوف كابرا، مؤلف كتاب The Web of Life حال تعاملنا والجينات، فالحقيقة أقوى وأكثر تعقيدا من الخيال.

بينما يعرف علماء الأحياء تفصيليا تركيب القليل من الجينات، فإن معرفتهم محدودة بطرق اتصال وتفاعل تلك الجينات مع بعضها البعض أثناء تطور الكائن الحي. بشكل آخر، هم يعرفون ألف باء الشفرة الوراثية، بيد أنهم لا يملكون أدنى فكرة عن تركيبها التفصيلي. ويبدو واضحا أن أغلب الـ دي.إن.أيه DNA -ربما 95% منه- وظائفه تكميلية وهو ما قد يجهله العلماء طالما تمسكوا باتباع النمط الآلي في تحليلهم إياه.

بدلا من أن يكون الحال حمل أحد الجينات لإحدى الصفات الوراثية، يبدو أن البناء الجيني هو حاصل تفاعلات شديدة التعقيد بين شفرات جينات عديدة والوسط الكيميائي الداخلي للفرد. إضافة لذلك، فإن تفعيل التعليمات الوراثية لأحد الجينات من عدمه يعتمد مرة أخرى على الطبيعة الكيميائية الداخلية للفرد. وبدلا من أن يكون للفرد برنامج جيني واحد، هناك الآلاف إن لن تكن ملايين البرامج والتي تحدد عملها الطبيعة الكيميائية الذاتية أكثر مما تفعله تلك الجينات الوراثية. كما يقول د.جيفري بلان “هذه الشفرات، وتمثيل الجينات الوراثية، كلاهما قابل للتعديل. فذاتك الحالية هي محصلة تجربة غير محكومة تسمى “حياتك” تقوم فيها بنقع جيناتك الوراثية ووضعها على المحك في انتظار ناتج تلك التجربة. إن لم ترضك النتيجة، فبإمكانك تغييرها أيا كان عمرك سواء كنت في 15 أو 65 أو 90.

تأمل قصة ممرضة سابقة تسمى مافيس، بدأت تعاني في منتصف الستينات من عمرها من أزمات ربوية حادة والتهابات رئوية متكررة كانت تضطرها إلى الإقامة في المستشفى مرتين سنويا. تم إعطاؤها مضادات حيوية لعلاج عدوى الصدر، بيد أنها ومع كل أزمة كانت تعاني من تراجع وظائفها الرئوية. وجدت مافيس نفسها في موقف حرج وبدأت تعاني من الاكتئاب. وفي أحد الأيام ذهبت لحضور محاضرة يلقيها عالم وظائف أعضاء مهتم بتأثير الرياضة على وظائف تلك الأعضاء وقد أخذ يوصي من يعانون مثل مشكلتها بمزاولة رياضة الركض بشكل تدريجي بأن يبدءوا بالمشي ثم المشي الحثيث حتى الوصول إلى الركض. رغم أنه بدا وقتها أن مافيس ليست ممن يناسبها الأمر، إلا أنها قررت أن تخوض التجربة. والآن وبعد عدة سنين، خاضت مافيس أكثر من عشرين ماراثون أكملت آخرها في حوالي 4 ساعات؛ وهو ليس بالسيئ لمن في سن 82. لم تعد تعاني قط من مشاكل رئوية وهي الآن مثال يحتذى به للياقة البدنية. لقد تخلصت من حوالي 25 عاما من عمرها الحيوي بمجرد تغييرها لنمط حياتها، هكذا وبمنتهى البساطة.

الجينات والبيئة

تعد قصة مافيس مثالا حيا لغلبة طبيعة الحياة -وهي حاصل كل ما تأكله وتشربه وتتنفسه وتفكر فيه وما تمارسه من رياضة- على برنامجك الجيني. تلك أخبار جيدة وسيئة في الوقت ذاته. الجيد هو أنك وحدك، وليس والداك، تعد مسئولا عن صحتك. السيئ هو وجود الكثير من العوامل البيئية المعاصرة الصعب تجنبها يمكن لها أن تؤثر على جيناتك وأثرها على صحتك ومسارك الحيوي.

ولنضرب مثلا، المادة الكيميائية النونيلفينول Nonylphenol، الموجودة بالدهانات، والمنظفات، وزيوت التشحيم، ومساحيق الزينة، والمواد القاتلة للمني، والكيميائيات الزراعية، وكثير من المنتجات الأخرى. بداخل الخلايا مستقبلات للهرمونات (انظر الشكل 3). يتفق الهرمون ومستقبله تماما كالقفل والمفتاح. عند إدخال المفتاح المناسب، تنشط جينات محددة ويبدأ برنامج حيوي ما في العمل. الهرمونات غير الطبيعية مثل النونيلفينول تشبه المفاتيح المقلدة. فبإمكانها تنشيط الجينات، ولكن ليس بالضرورة أن يتم التنشيط بشكل صحيح، ومن ثم فهي تغير نظامنا الحيوي. تعرف النونيلفينول بقدرتها على محاكاة هرمون الإستروجين. وكالإستروجين تماما، بإمكانها تغيير البرنامج الكيميائي الحيوي للجسد، حسب الكم والمؤثرات الأخرى التي تتعرض لها الخلايا.

يحتوي فول الصويا أيضا على جزيء شبيه بالإستروجين، بيد أنه في تلك الحالة يرتبط بمستقبلات الإستروجين فيمنع المواد الضارة مثل النونيلفينولات من العبث بالجينات. لذلك فهو يساعد على حدوث اتزان هرموني، بينما مواد أخرى مثل النونيلفينولات، تربك هذا الاتزان.

يحدد تأثير البيئة عليك مدى الاتزان بين قائمة طويلة من المواد النافعة، تلك التي تحتويها المغذيات والأطعمة الطبيعية وقائمة أخرى طويلة وفي تنامي من المواد سلبية التأثير، وهي عادة من صنع الإنسان. لو استطعت التأقلم مع تلك البيئة، احتفظت بصحتك، ولو واجهتك صعوبات تصاب بالمرض، ولو تفاقمت تلك الصعوبات فقد تموت. إن جيناتك الموروثة ووظائفك الحيوية الحالية (وهي حاصل معيشتك السابقة) تحدد مدى قدرتك على الاحتمال قبل أن يتحطم ظهر الجمل تحت وطأة الأثقال.

اسأل طبيب مجاناً استشارات طبية مجانية